تدفقت جموع الفلسطينيين عائدة من جنوب قطاع غزة إلى أحيائهم السكنية في شمال القطاع وخصوصًا في مدينة غزة عبر شارع الرشيد الساحلي غرب المدينة، بعد أن بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي انسحابًا تدريجيًا من المناطق التي كان يحتلها في أعقاب دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، فمشهد العودة كان مهيبًا ومفعمًا بالدموع والفرح، حيث تداخلت مشاعر النصر مع وجع الفقد وصدمة الدمار الشامل الذي خلفه العدوان.
العائدون من الجنوب كانوا خليطًا من النازحين الذين لجأوا إلى مناطق خان يونس ورفح طوال عامين من الحرب، ومن السكان الذين بقوا تحت القصف في مدينة غزة صامدين حتى الرمق الأخير. وقد غصّت الطرق المؤدية إلى الشمال بالمركبات والعائلات التي سارت على الأقدام تحمل أطفالها وما تبقى من أمتعتها، بينما كانت وجوههم تعكس مزيجًا من الصمود والحزن والأمل.
مع انسحاب قوات الاحتلال، انكشف حجم الدمار الرهيب الذي أصاب أحياء مدينة غزة، فالشوارع الرئيسية كسرت ملامحها بفعل القصف، وشارع الجلاء وشارع النصر والنفق باتت أطلالًا، والمنازل سويت بالأرض كما لو أن حربًا كونية مرت من هنا. العائدون الذين دخلوا أحياءهم وجدوا مدنهم كأنها خرجت من رحم القيامة، فبدأوا بتفقد ما تبقى من منازلهم ومحالهم وأرواحهم، يحملون حجارة بيوتهم المهدمة كتذكارات على الصمود.
وفي هذا السياق، قال عضو المكتب السياسي لحركة حماس عزت الرشق إن عودة الفلسطينيين إلى غزة رغم الدمار وانعدام مقومات الحياة تمثل انتصارًا حقيقيًا ودليلًا على فشل مخططات التهجير بالقصف والتجويع والإرهاب، مشددًا على أن هذا المشهد يختصر معنى النصر وأن غزة أرض لأهلها، ولن تكون يومًا موطئًا للغزاة مهما بلغت التضحيات.
ومع حلول اليوم الثاني لوقف الحرب، واصل مئات آلاف النازحين سيرهم نحو الشمال وسط ركام المدن، يسيرون فوق أوجاعهم حاملين في قلوبهم أملاً لا يُقهر بالعودة والبقاء. فالعائلات تسير على الأقدام عبر شارعي الرشيد وصلاح الدين، وبعضها يبيت في خيام مؤقتة نصبت على أنقاض المنازل التي دمرها العدوان، بينما عاد آخرون إلى وسط خان يونس بعد انسحاب قوات الاحتلال منها، ليجدوا مدينتهم مدمرة بنسبة تفوق خمسة وثمانين في المئة، وفق تأكيد رئيس البلدية الذي أوضح أن أكثر من أربعمئة ألف طن من الركام تغمر الشوارع، وأن شبكة المياه والصرف الصحي أصيبت بالشلل شبه الكامل.
ورغم هذه الكارثة، يتمسك الفلسطينيون بأرضهم، يؤكدون أن البقاء في غزة هو أسمى أشكال المقاومة، وأن العودة اليوم هي إعلان صريح بسقوط مشروع الإخلاء القسري الذي حاول الاحتلال فرضه بالقوة.
في المقابل، انتشرت عناصر الشرطة والأجهزة الأمنية في المناطق التي انسحب منها جيش الاحتلال لإعادة النظام واحتواء الفوضى، ودعت وزارة الداخلية المواطنين إلى الحفاظ على الممتلكات العامة والتعاون مع الجهات المختصة، في حين بدأت البلديات فتح الطرق ورفع الركام في مشهد يؤذن بولادة جديدة رغم الألم.
وقال رئيس بلدية غزة يحيى السراج إن الأولوية في هذه المرحلة هي تهيئة المدينة لاستقبال العائدين وتوفير المياه وفتح الشوارع ومعالجة الأضرار البيئية والصحية، مؤكدًا أن الإمكانات المتاحة شبه معدومة لكن العزيمة لا تنكسر، وأن التواصل جارٍ مع الجهات الإنسانية لتأمين المعدات اللازمة في أسرع وقت ممكن.
وتعمل حكومة غزة ضمن خطة طوارئ واسعة لإعادة الحياة تدريجيًا إلى القطاع، حيث أعلنت إنجاز أكثر من خمسة آلاف مهمة ميدانية خلال أربعٍ وعشرين ساعة في مجالات الإنقاذ والإغاثة والخدمات، وسط دمار غير مسبوق خلّفته آلة الحرب الإسرائيلية التي ارتكبت إبادة جماعية على مدار عامين كاملين أزهقت أرواح أكثر من سبعة وستين ألف شهيد ومئة وتسعة وستين ألف جريح، معظمهم من النساء والأطفال، وأغرقت القطاع في مجاعة خانقة وحصار خانق.
أما اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ ظهر الجمعة فقد نص على انسحاب تدريجي لقوات الاحتلال من مناطق القطاع وإطلاق متبادل للأسرى وفتح الممرات الإنسانية، وهو الاتفاق الذي وُقع بعد مفاوضات مضنية في شرم الشيخ برعاية مصرية قطرية تركية وبإشراف أمريكي، في محاولة متأخرة لوقف المجازر التي هزت ضمير العالم.
ورغم هشاشة الاتفاق، فإن الفلسطينيين يرونه بداية لعودة الحياة وإعلانًا بأن غزة انتصرت بصمودها، وأن شعبها كتب بدمه فجر الحرية القادمة.