في لحظةٍ مشحونة بالتوترات الإقليمية والدولية، استعادت روسيا حضورها العسكري والسياسي في سوريا، عشية اجتماع وزراء دفاع حلف الناتو المخصص لمواجهة موسكو وتعزيز دعم أوكرانيا، فيما حملت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو إشاراتٍ معقدة حول توازن القوى في الشرق الأوسط واحتمالات إعادة رسم الخريطة الإقليمية تحت سقف الصراع الروسي الغربي.
وصل الشرع إلى العاصمة الروسية الأربعاء، في أول زيارة له منذ سقوط النظام السابق الحليف لموسكو، مؤكّدًا فور وصوله “التزام حكومته بالاتفاقيات السابقة مع روسيا”. وكشفت مصادر روسية أن اللقاء المغلق الذي جمعه بالرئيس فلاديمير بوتين ركّز على ملف القاعدتين الروسيتين في حميميم وطرطوس، وسط تأكيدات على أن موسكو تسعى لإعادة تثبيت وجودها العسكري الدائم على المتوسط.
وأشارت وكالات دولية، بينها “رويترز“، إلى أن الشرع يسعى لإقناع روسيا بعدم تسليح النظام السابق الذي ما زال بعض رموزه يقيمون في الخارج، بينما نقلت مصادر أخرى أن الزيارة تهدف إلى إعادة بناء الجيش السوري بإشراف روسي وضمن ترتيبات توازنٍ جديد بين موسكو وأنقرة وواشنطن.
من داخل الكرملين، أكد بوتين خلال لقائه الشرع أن “التعاون بين روسيا وسوريا سيجلب نتائج جيدة للبلدين”، مشيرًا إلى أن العلاقات بين الجانبين “تمتد لأكثر من ثمانين عامًا”، ومضيفًا أن موسكو “مستعدة لإنجاز مشاريع مشتركة واستئناف عمل اللجنة الثنائية”. ورد الشرع بقوله إن بلاده تعمل على “إعادة تعريف طبيعة العلاقات مع روسيا” مؤكدًا احترام الاتفاقيات السابقة وسعيه إلى “تعزيز الشراكة في إطار السيادة الوطنية”.
تأتي هذه التطورات بينما يستعد حلف الناتو لاجتماع دفاعي على مستوى الوزراء في بروكسل، يبحث إنشاء منظومة دفاعية جديدة “لمواجهة الاختراقات الروسية” وتزويد أوكرانيا بـ”صواريخ وأنظمة دفاع جوي متقدمة”، وفق ما أكده وزير الدفاع الأمريكي. ويأتي الاجتماع قبل انتهاء المهلة التي حددها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحسم صفقة صواريخ “توماهوك” الموجهة لأوكرانيا، والتي حذر الرئيس البيلاروسي من أنها قد “تدفع العالم إلى حافة حرب نووية”.
وفي خضم هذا التصعيد، يرى مراقبون أن زيارة الشرع إلى موسكو ليست مجرد خطوة دبلوماسية، بل ورقة في لعبة النفوذ بين القوى الكبرى. فالبعض يعتبرها محاولة أمريكية لمنح روسيا مساحة جديدة في الشرق الأوسط مقابل انخراطها في خطة سلام بملف أوكرانيا، بينما يذهب آخرون إلى أنها جزء من مشروع تركي لإعادة صياغة النظام السوري بما يضمن لأنقرة دورًا فاعلًا في “هندسة ما بعد الحرب” من خلال دعم عودة بعض رموز النظام السابق، وعلى رأسهم الضابط مناف سلام المرشح لتولي حقيبة الدفاع ضمن تسوية قيد النقاش.
هذه المؤشرات تكشف أن الملف السوري عاد إلى الطاولة الدولية، وأن موسكو، رغم انشغالها بجبهتها الغربية، تتمسك بموطئ قدمها في المتوسط، معتبرة القواعد في حميميم وطرطوس ركيزة أمن قومي روسي ممتدة نحو البحر المتوسط والممرات الدولية. وفي المقابل، تدفع واشنطن وأنقرة باتجاه نظام إقليمي جديد يعيد توزيع موازين القوة بين الشرق والغرب.
في الخلاصة، تعكس التحركات الروسية الأخيرة عودة الكرملين لتثبيت نفوذه العسكري والسياسي في المنطقة، فيما تتعامل واشنطن والناتو مع تلك العودة كـ”تهديد يجب احتواؤه”. وبين هذين القطبين، تتحرك أنقرة لتكريس دورها كوسيطٍ ومهندسٍ إقليمي. وبين موسكو وواشنطن، تبقى دمشق ساحة اختبار مفتوحة لمعادلة النفوذ العالمي، وعنوانًا لصراعٍ لم يُحسم بعد بين “التموضع الروسي” و”الردع الأطلسي”.