المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    غزة تنهض من بين الركام

    لم يكن دخول واشنطن على خطّ «مبادرة السلام» في...

    الهلال يهزم الاتحاد في عقر داره في “الكلاسيكو” السعودي

    أسقط نادي الهلال مضيفه اتحاد جدة في عقر داره...

    أطعمة تحمي بصرك في عصر الشاشات الرقمية

    في عصر يسيطر عليه استخدام الشاشات الرقمية، أصبح الحفاظ...

    ارتباط خطير بين العمل الدائم في النوبات الليلية والقولون العصبي

    كشفت دراسة علمية حديثة عن علاقة مقلقة بين العمل...

    كين ومبابي يتقاسمان الصدارة ويشعلان سباق الهدافين في دوري أبطال أوروبا 2025-2026

    تصدر الثنائي الألماني هاري كين مهاجم بايرن ميونخ والفرنسي...

    غزة تنهض من بين الركام

    لم يكن دخول واشنطن على خطّ «مبادرة السلام» في غزة خطوة إنسانية على الإطلاق، وإنما اعتراف غير معلن بأن الحرب لم تعد تصبّ في مصلحة الكيان الصهيوني. فبعد عامين من القتال، بدا واضحًا أن الكيان لم يحقق أهدافه المعلنة، وأنّ فصائل المقاومة لا تزال متماسكة رغم التدمير الهائل للأرض والإنسان. وكما تشير تقارير BBC وThe Guardian (2024–2025)، فإن الجيش الصهيوني يواجه أزمة معنوية وعسكرية متنامية مع ارتفاع الخسائر البشرية وتراجع الدعم الشعبي له حتى داخل المجتمعات الصهيونية نفسها.

    تُدرك واشنطن أنّ استمرار الحرب دون أفقٍ سياسي يعني انهيار ما تبقّى من شرعية “إسرائيل” في الغرب، بعدما وثّقت الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية الآلاف من المجازر ووصفت الأوضاع الإنسانية في القطاع بأنها «كارثة غير مسبوقة في القرن الحادي والعشرين». وذا الضغط الأخلاقي وضع تل أبيب في زاويةٍ ضيّقة أمام الرأي العام العالمي، وأجبرها على قبول هدنة مؤقتة تحت رعاية أميركية وأممية.

    غير أن ما يقلق “إسرائيل” أكثر من الحرب هو ما بعد الحرب: واقعٌ ديموغرافي متحوّل على الأرض. فبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، تضاعف عدد الفلسطينيين أكثر من سبع مرات منذ عام 1948، فيما يعيش اليوم نحو 5.5 ملايين داخل فلسطين التاريخية وحدها. وهذه الأرقام ــ كما تذكر رويترز والجزيرة الإنجليزية ــ تُشكّل «قنبلة زمنية ديموغرافية» تهدّد بنية الكيان من الداخل، لا سيما مع معدلات نمو سكاني فلسطيني تفوق نظيرتها الإسرائيلية بأكثر من الضعفين.

    في المقابل، تظهر استطلاعات إسرائيلية (مثل معهد الديمقراطية الإسرائيلي 2024) ازدياد نسبة الشباب الإسرائيلي الراغبين في الهجرة، وتراجع الثقة بحكومتهم وبجدوى «الأمن المطلق». هذه المؤشرات تعبّر عن أزمة انتماء عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، تُضاف إلى الأعباء الاقتصادية المتفاقمة الناتجة عن الحرب وحالة الطوارئ المستمرة، فالكيان مضطر إلى تحمل أعباء إضافية لإقناع الشباب بالبقاء تضاف إلى التكاليف الأخرى التي تشمل كل مناحي الحياة بما في ذلك السكن والتعليم والصحة والإعاشة دونما أي مقابل يبذله المستوطن الصهيوني.

    أما في غزة، فالصورة مختلفة تمامًا، رغم الدمار الشامل الذي طال الأبنية والبنية التحتية والمستشفيات، فإن مظاهر الحياة بدأت تعود بقوة وبإصرارٍ لافت. فالأسواق الشعبية تنتعش من جديد، ويُعاد فتح المدارس حتى ولو تحت خيام مؤقتة، والمزارعون يعودون إلى أراضيهم في المناطق الحدودية لزراعة ما تبقّى من الأرض. هذه المشاهد، كما وصفتها صحيفة The Guardian (يونيو 2025)، تعبّر عن «نهوضٍ من بين الركام»، حيث تحوّل الصمود الشعبي إلى فعل مقاومة مدني يوازي في قوّته الصمود العسكري.

    تقرير الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (OCHA) الصادر في مايو 2025 أشار إلى أن ما يقارب 65% من سكان القطاع باتوا يشاركون في مبادرات إعادة الإعمار الذاتية — عبر التعاون المجتمعي، وحملات المتطوعين، وبناء المنازل المهدّمة بمواد محلية بسيطة. وهذا الحراك الشعبي يعكس أن إرادة الغزيين لم تُكسر رغم فقدان أكثر من 90% من البنية التحتية المدنية بالعدوان الإسرائيلي.

    وفي استطلاع أجرته وكالة رويترز بالتعاون مع باحثين محليين، عبّر معظم الشبان في غزة عن رفضهم للهجرة رغم المعاناة، مؤكدين أن «البقاء في الأرض هو الردّ الأبلغ على الاحتلال». مثل هذه المواقف، كما علّقت الواشنطن بوست، تمثّل ظاهرة نادرة في مناطق الصراع؛ إذ عادةً ما تفرّ الشعوب من الحروب، أما في غزة فالحرب أعادت تشكيل الوعي الجمعي حول فكرة الانتماء بوصفها شرطًا للبقاء.

    حتى على المستوى الثقافي، تشهد غزة نوعًا من «النهضة الرمزية»؛ فالمعارض الفنية الصغيرة تقام في المساجد والملاجئ، والشعراء يوثّقون المأساة على جدران الخراب. هذا الوعي الجمالي المقاوم خلق خطابًا جديدًا يربط بين إعادة البناء وإعادة المعنى، حيث باتت المقاومة بالنسبة للغزيين ليست خيارًا عسكريًا فحسب، بل هويةً وجودية، ومعيارًا للكرامة والذاكرة.

    وهكذا، فإن الحرب التي أرادت “إسرائيل” أن تنهي بها المقاومة، انتهت بتعزيزها. والكيان الذي سعى لطمس القضية الفلسطينية وجد نفسه أمام تهديدٍ وجودي أكثر من أيّ وقتٍ مضى. ومع انحسار الغبار، يتبيّن أن غزة وُلدت من جديد، بينما تتصدّع الرواية الإسرائيلية في قلب الغرب الذي طالما وفّر لها الغطاء الإجرامي بكل أشكاله.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    محمد محسن الجوهري

    spot_imgspot_img