كل أرضٍ تحمل ناسها، وكل مجتمعٍ يختزن ذاكرةً من تاريخٍ وجغرافيا تشكّلان هويته وتحددان مساراته. ومن خلال التغلغل في خبايا هذه الثلاثية —الإنسان، والتاريخ، والمكان— يكتشف الغزاة والطامعون آلافَ الفواصل ونقاط الضعف التي يمكنهم استغلالها لتفكيك نسيج المجتمع. إنها استراتيجية “فرق تسد” التي تستند إلى فحص الأعراق والقبائل والطبقات واللغات، للبحث عن نقاط التنافر وإعادة تأجيجها بقصد تقويض التضامن الاجتماعي. فالعدو يستثمر دراسته للتاريخ والجغرافيا ليعيد فتح الجروح الدفينة، فيعيد إنتاج انقساماتٍ قديمة ويحوّل آثار الماضي إلى أدواتٍ للهيمنة، فتضعف المجتمعات من الداخل قبل أن تُفرض عليها سيطرةٌ من الخارج.
وبعبارة أخرى: التفكيك الثقافي والاجتماعي الذي يَستثمره المحتلّ هو نتاج خطةٍ متكاملةٍ تبني على تبايناتنا لتُطوّعنا للغرض نفسه—إضعاف القدرة على المواجهة الجماعية، وإضعاف الإرادة الشعبية التي تصنع المقاومة.
في اليمن، درس الإنجليز طبيعة الشعب اليمني بكل تفاصيلها وحولوا اختلافاته الطبيعية إلى تباينات قاتلة، منها الفروقات المذهبية بين الزيدية والشافعية، والتي كانت حبيسة المراكز الدينية عبر التاريخ حتى جاء الإنجليز وأضافوا لهذا الخلاف بعداً مناطقياً واستثمروا في زراعة الأحقاد بين الشمال والجنوب بالخلاف نفسه، فأصبح الجنوب كله شافعي معادٍ للزيود في الشمال، والذي بدوره أصبح زيدياً حسب المفهوم المناطقي للصراع.
وبدلاً من قتال الإنجليز، اتجه اليمنيون للقتال فيما بينهم بدوافع لا علاقة لهم بها ولا سبيل لإنهائها، فالشمالي لا يمكن أن يكون جنوبياً والعكس، وهذا الأسلوب يمهد لزراعة أحقاد بعيدة المدى إعيد حتى إنتاجها بعد الوحدة رغم مرور نحو نصف قرون من طرد الإنجليز.
وإذا ما عدنا بالذاكرة إلى ما قبل اندلاع ثورة الرابع عشر من أكتوبر، فإنّ المشهد الجنوبي يكشف بوضوح حجم الحيل الاستعمارية التي أتقن البريطانيون توظيفها لإحكام قبضتهم على البلاد. فبعد أن استقر لهم النفوذ في جنوب اليمن، لم يكتفوا بإشعال التباين المذهبي بين الشوافع والزيود لفرض السيطرة على كامل الوطن، بل باشروا بتفتيت كل شطرٍ على حدة، وتغذية الصراعات داخل النسيج الاجتماعي ذاته.
في الجنوب تحديدًا، اعتمد الاحتلال سياسة التقسيم السياسي والقبلي، فجزّأ الجغرافيا إلى محميات وسلطنات متعدّدة، متناحرة في ما بينها، تُدار وفق حسابات مناطقية وقبلية أُعيد استحضارها من باطن التاريخ لتتحول إلى واقع جديد يخدم المستعمر. وبدل أن تتجه الطاقات نحو توحيد البلاد وبناء قوتها، انشغل الجميع بصراعات حدّتها الجغرافيا وضاعفتها العباءات التقليدية.
ولعل قبيلة يافع —وهي من أعرق القبائل اليمنية— مثال على تلك التجزئة، فقد انقسمت إلى قبيلتين، يافع العليا ويافع السفلى، على خلفية اختلافٍ شكليٍ لا يتجاوز لون البشرة. وهو انقسامٌ كان يمكن تجاوزه بطبيعة الحال، لكنّه أصبح وقودًا لخصوماتٍ طويلة، كرّسه المستعمر ليضمن استمرار الهيمنة عبر تمزيق الروابط التي كان يمكن أن تصنع قوةً موحدة أمام مشروعه الاستعماري.
وبتلك العقلية تم تقسيم الجنوب إلى شبكة واسعة من المحميات والسلطنات، لكل منها حدودها وحساسياتها ونزاعاتها، حتى غدت منطقة واحدة ممزقة إلى كيانات صغيرة، تتصارع على النفوذ وهي في الوقت نفسه تُعلن ولاءها الكامل للسّلطة الأجنبية. استنزفت تلك الخلافات المحلية طاقة المجتمع وأضعفت قدرته على إدراك الخطر الأكبر المتربص بالوطن كله، فبات من السهل على العدو الإمساك بخيوط اللعبة، وتحريكها بما يخدم مصالحه دون كلفة تُذكر.
كما اجتاحت سياسات «فرق تسد» الشمال أيضاً؛ فقد أنفق البريطانيون مبالغ طائلة لتمويل كل أشكال النزاعات المحلية، مستغلين الانقسامات المذهبية والمناطقية، وحتى التنوعات الطبقية داخل المجتمع الواحد. ولم تقف محاولات التأثير عند حدود التحريض الكلامي، فقد امتدت إلى أدوات أكثر عملية: رشاوى لزعماء القبائل، دعم لوجستي لرجال الدين، ومغريات للمثقفين وأطرافٍ تأثيرية قادرة على تقسيم الصف الداخلي. ومن أثر هذه السياسة أصبحت عملة «ريال ماريا تيريزا» —المعروفة سابقاً بالريال الفرنسي— سلعةً متداولة على نطاق واسع في الشمال، انعكاساً لحجم الأموال التي ضخها المستعمر لشراء ولاءات ومحركات اجتماعية، وتحويل النزاعات الصغيرة إلى أحقاد طويلة تُضعف قدرة الشعب على التصدي للغزو والإملاءات الخارجية.
والكارثة أن العدو أعاد اليوم إنتاج الصراعات عبر الأدوات نفسها، معتمداً على إلمامه بالمجتمع والتاريخ والجغرافيا، لكن الفارق في المعادلة أنه وجد أطرافاً عربية أخرى تموّل الصراعات البينية داخل اليمن وسائر الشعوب العربية والإسلامية. ومن هنا جاءت كل الحروب والنزاعات التي تدور رحاها في امتداد الوطن العربي الكبير، لتسهيل تفردهم بكل شعب على حدة، ولتبقى فلسطين أسيرة العدوان الصهيوني إلى الأبد — وهو ما لن يستمر. فكما سقطت مرحلة الاحتلال الإنجليزي لليمن، ستسقط كل أشكال الاحتلال والهيمنة عن عالمنا؛ وسيكون لنا موعد مع الوحدة الإسلامية وتحرير القدس وكل فلسطين من دنس المفسدين في الأرض.
