أهمّ دروس السابع من أكتوبر عدم قبول وجود أيّ تهديد عسكري، ولم يعد ثمة شِعب غير شِعب أبي طالب يأوي إليه شباب المقاومة والرماح تتخطّف رؤوسهم من جباليا وجنين حتى بنت جبيل.
ارتكب الكيان الإسرائيلي آلاف الخروقات لوقف النار في غزة ولبنان منذ تفاهمات وقف الحرب مع لبنان قبل عام مضى، ومنذ أقلّ من شهرين مع غزة، ولكنّ الاغتيال الآثم والخطير للقائد العسكري في حزب الله هيثم الطبطبائي، وقبل ذلك اغتيال قائد التسليح في حماس علاء الحديدي، مثّل تصعيداً نوعياً في سياق الخروقات الإسرائيلية، واستباقاً متسرّعاً لطبيعة قواعد الاشتباك التي نجح الكيان الإسرائيلي في فرضها على أرضيّة تحوّل الحرب إلى عمليات نوعية، يمتلك فيها الكيان زمام المبادرة، فيما يُنظر لأيّ ردّ من المقاومة باعتباره انهياراً لوقف النار، والسبب أنّ الأميركي نجح في فرض نفسه كشريك وحكم في الوقت ذاته، فهل تسمح المقاومة بتمرير هكذا واقع على المدى القريب أو البعيد؟
يحمل ميدان المواجهة الراهن في أحشائه مخاض التحوّلات المقبلة على مستوى المنطقة، وهي تحوّلات يريد فيها الأميركي تنصيب الإسرائيلي سيّداً مطلقاً على الشرق الأوسط الجديد، ويتهيّأ فيها هذا الإسرائيلي للإعلان الرسمي عن انطلاق مشروع “إسرائيل الكبرى”، تحوّلات يتكرّس فيها خضوع منظومة التطبيع العربية والإسلامية للإملاءات الأميركية، وهذه المرة أيضاً الأوامر الإسرائيلية المباشرة، حيث شاركت هذه المنظومة في احتواء شعوبها عن القيام بواجبها نصرة لغزة في ظلّ حرب الإبادة الجماعية طوال عامين.
وكانت المقاومة في فلسطين ولبنان وعموم محور المقاومة، تشكّل عقبة رئيسة في كبح جماح التغوّل الإسرائيلي، فيما هو الآن يقصف ويعتدي على امتداد المنطقة حتى وصل إلى إيران واليمن، وإن لم ينجح في فرض معادلته هناك وقد انكفأ مضطراً لوقف النار، ولم يجرؤ على العدوان مجدّداً حتى الآن، بانتظار فرصة أمنية سياسية جديدة يمكنه إكمال ما بدأه، أو هكذا يظنّ، فيما يستبيح هذا التغوّل فلسطين ولبنان وسوريا ويتصاعد في ظلّ احتواء المقاومة لهذه الضربات من دون ردّ عسكري، ما يطرح سؤال الميدان وآفاق المعركة مجدّداً، خاصة مع تصاعد العدوان وضيق خيارات المقاومة.
أطبق الكيان الإسرائيلي على لبنان وغزة، ووجدت المقاومة نفسها غير محمية الظهر من الداخل، وقد تكشّف عن ارتهان كامل لإرادة المنظومة الحاكمة في المنطقة، خاصة بعد سقوط النظام السوري، ودخول النظام الجديد في ركاب المحور الأميركي، ومراهنته على اتفاق أمني مع “إسرائيل”، فيما أنّ الجنوب السوري تحت الاحتلال الإسرائيلي، ما يشجّع الإسرائيلي عبر الشريك الأميركي على الإصرار على نزع سلاح المقاومة، باعتباره الأمر الذي يحقّق أهداف “إسرائيل” في حربها.
تقف المقاومة في غزة ولبنان قابضة على سلاحها، وهي تستعيد أنفاسها، حتى مع تصاعد الطعنات في صدرها، والإسرائيلي يعي حقيقة أنّ الوقت ينفد، فالمقاومة ما دامت ترفض نزع سلاحها بشكل صريح في لبنان، وهي في غزة تربط ذلك بوجود حكومة فلسطينية باعتباره شأناً فلسطينياً داخلياً، والواقع وفق هكذا مقاربة يشير لحقيقة تصاعد عضّ الأصابع، والمقاومة هنا وإن تراجعت في هذه المرحلة عن إيذاء العدو عسكرياً، فهي تعدّ الأيام في محاولة تجاوز ما تمّ فرضه بلغة النار التي استخدمت المدنيين هدفاً لها، ولسان حالها ضبط أفعالها حتى يحين الوقت الذي يضطر فيه الإسرائيلي لوقف خروقاته، أو تستعيد هي زمام قدرتها على لجم جرائمه.
قدرة المقاومة على الاحتفاظ بسلاحها وتصدّيها للتحدّيات على هذا الصعيد، باعتبار ذلك عقيدة وثقافة ونمط حياة، يعزّز قدرة حواضن المقاومة على تجاوز هذه المحن، والأهمّ أنّ هذا الأمر ينعش خط المقاومة الفكريّ، في وقت يراهن فيه الإسرائيلي ومعه طوابير العبيد على امتداد الطوق، أن يتمّ اختراق السياق الفكري والنفسي لعقيدة المقاومة، عبر معادلة حقّ الإسرائيلي وحده بالقصف والقتل، ليتمّ عبر طول الأمد بهذا الخصوص تفكّك حلقات الفكر المقاوم، وكيّ الوعي الشعبي بكلفة المواجهة ولا بديل إلّا “وضع الراس بين الروس وقول يا قطاع الرؤوس”.
نفاد الوقت الإسرائيلي في امتطاء الميدان المحترق، دخل طوراً متسارعاً مع الاغتيالات الأخيرة، فهو في الوقت الذي قد يعتقد فيه أنّ عدم الردّ يمثّل ضعفاً يشجّعه على المزيد من الاغتيال مع توفّر أدنى معلومة أمنية جديدة، هو أيضاً يضع يده على قلبه وهو ينظر ليجد خصمه يضع أعصابه في ثلاجة تصلّبت فيها الروح، بانتظار نقطة الصفر حيث يكتشف الإسرائيلي أنه يدور في حلقة مفرغة، وقد راكم نجاحاته في الاغتيال والقتل، ولكنه يجد تبعات السابع من أكتوبر في غزة، كما فشله الميداني في قرى الحافة مع لبنان، ماثلة مجدداً للعيان في داخل كيانه كحقائق أولية أصيلة، لا يظهر فيها نجم السنوار نعم ولا نجم نصر الله كما تبجّح نتنياهو، فيما تعانق روح المقاومة في ثباتها وعنادها صناعة الفعل في وقته وإن طال على المدى القريب.
سياقات ما بعد الاغتيالات
يتكشّف الواقع الميداني الراهن بعد هذه الاغتيالات عن ثلاثة سياقات محتملة:
أوّلها: تمادي الإسرائيلي في خروقاته على المدى القريب، خاصة أنّ بيان النعي الصادر عن حزب الله للشهيد القائد لم يتوعّد بالردّ، كما أنّ قيادة حماس أكدت ثبات وقف النار بعد اغتيال الحديدي والمجازر التي ارتكبها الإسرائيلي ثلاث مرات، يضاف إليها عمليات قتل يومية بزعم اجتياز الخط الأصفر، أو في سياق الإطباق على المقاتلين العالقين في أنفاق رفح.
ثانياً: أن يدفع التمادي الإسرائيلي الميليشيات العميلة في غزة وداعميها في الداخل الفلسطيني، لتوسيع نفوذها في رفح ومنطقة الخط الأصفر، والقيام بعمليات واسعة ضدّ المقاومة، خاصة أنها تجد وقتها ينفد، كما أنه لم يعد لديها ما تخسره وقد احترقت شعبياً بشكل كامل، وفي لبنان يمكن لهذا التمادي الإسرائيلي أن يشجّع بعض الأطراف المعادية لحزب الله لرفع منسوب الضغط عليه في شتى جوانب نفوذه للتنازل في قضية نزع السلاح.
ثالثاً: وأخيراً؛ أن تنسّق قوى المقاومة والمحور موقفها وردّها الأمني أو العسكري، وهي تجد نفسها للمرة الأولى بما فيها إيران نفسها، أمام خيار واحد لا ثاني له وهو الموت البطيء أو الصمود، إذ لم يعد خافياً أنّ تجدّد العدوان على إيران ليس سوى مسألة وقت، وهو مرتبط بالقدرة على استهداف بنية النظام الإسلامي الثوري نفسه، بعد فشل تأثير استهداف المنشآت النووية واغتيال القيادات العسكرية على السياسة الإيرانية، والحال شبيه في اليمن التي يتحيّن فيها الإسرائيلي والأميركي الوقت المناسب لتوجيه ضربة تدفع صنعاء للانشغال بنفسها في الحدّ الأدنى.
ويبقى حال لبنان وغزة كما الضفة، وفي كلّ السياقات على صفيح يغلي بالدم، من دون فرق سوى بمستوى استهداف المدنيين في غزة بشكل أوسع كخاصرة رخوة لكبح ردود فعل المقاومة، وقد تبيّن فشل خصوصية المناطق وفق نظرية “أهل مكة أدرى بشعابها” فيما أنّ الإسرائيلي ومعه الأميركي ومن خلفهما منظومة كاملة مرتهنة الإرادة، تضرب قوى المقاومة عن قوس واحدة، وهم يعلنون صراحة أنّ أهمّ دروس السابع من أكتوبر عدم قبول وجود أيّ تهديد عسكري، ولم يعد ثمة شِعب غير شِعب أبي طالب يأوي إليه شباب المقاومة والرماح تتخطّف رؤوسهم من جباليا وجنين حتى بنت جبيل.
