المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    سبتمبر أنقذ الدولة.. وديسمبر أسقط آخر رهانات العدوان

    لم تكن ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر بدايةَ صراع...

    قراءة في تقدير مركز استخبارات أمريكي لاحتمال تجدد المواجهة بين اليمن والكيان الصهيوني

    صدر في 12 نوفمبر الجاري عن منصّة RANE Network، وهي منصّة أمريكية متخصّصة في استخبارات المخاطر الجيوسياسية والأمنية، تقرير تقدير موقف بعنوان: «ماذا يعني صراع (إسرائيلي – يمني) متجدّد بالنسبة لليمن وأمن الخليج؟»

    تخاطب هذه المنصّة في الأساس شركات الملاحة والطاقة، والمؤسسات المالية الغربية، والدوائر المرتبطة بالأمن القومي الأمريكي، وتتعامل مع الأزمات من زاوية «إدارة المخاطر» لا من زاوية فهم جذور الصراع السياسية والاجتماعية، وهو ما ينعكس بوضوح على قراءتها لليمن ودور صنعاء في معادلات المنطقة.

    أولاً: اليمن كـ«عامل اضطراب» في العقل الأمني الأمريكي

    يتعامل التقرير مع اليمن – ولا سيما القدرات الوطنية في صنعاء – باعتبارها عامل اضطراب أمني واقتصادي يهدد منظومة الهيمنة البحرية الغربية في البحر الأحمر والخليج، وليس كطرف سيادي يواجه عدواناً خارجياً.

    وبذلك يضع التقرير احتمالات تجدد المواجهة اليمنية – «الإسرائيلية» ضمن إطار أوسع من الرؤى الاستخباراتية الأمريكية التي تركز على:

    • أثر التصعيد على الملاحة الدولية،
    • أمن الطاقة في الخليج،
    • استقرار الأنظمة الحليفة لواشنطن،
    • وحسابات الصراع مع محور المقاومة وإيران.

    من هذه الزاوية، يمنح تحليل التقرير فرصة لفهم كيفية تفكير العقل الأمني الأمريكي تجاه اليمن، وكيف يُعاد إنتاج الصراع من الخارج بوصفه ملفاً «بحرياً – اقتصادياً» لا صراعاً سيادياً يتعلق بحق اليمن في الدفاع عن نفسه.

    ثانياً: الإطار العام للرؤية الأمريكية

    يعكس تقرير RANE نموذجاً كلاسيكياً للقراءة الأمريكية للصراع في اليمن، حيث تُختزل المواجهة اليمنية – الإسرائيلية في معادلة «المخاطر» على البنية الغربية في البحر الأحمر والخليج.

    وتتأسس الرؤية الأمريكية – كما يعرضها التقرير – على ثلاث ركائز رئيسية:

    1. أمن الملاحة العالمية بوصفه مصلحة أمريكية مباشرة لا تقبل المساومة.
    2. تحجيم القدرات الوطنية اليمنية، لأنها تُعد في نظر واشنطن تهديداً متنامياً لمنظومة الهيمنة البحرية في البحر الأحمر.
    3. منع تشكّل توازن ردع يمني – إسرائيلي قد ينعكس على الخليج ويحدّ من قدرة واشنطن على إدارة الصراع الإقليمي والتحكم بسقوفه.

    من هنا يرى التقدير الأمريكي أن أي تجدد للمواجهة بين صنعاء والكيان الصهيوني يحمل مخاطر تتجاوز ميدان الاشتباك المباشر، ويفتح أبواباً سياسية وأمنية واقتصادية تمسّ الخليج والبحر الأحمر معاً.

    ثالثاً: مؤشرات التصعيد كما يقرأها الأمريكيون

    يرصد التقرير سلسلة من التطورات باعتبارها إشارات مباشرة على اقتراب جولة جديدة من الاشتباك بين صنعاء وتل أبيب، من بينها:

    • تهديدات إسرائيلية علنية بإعادة استهداف مواقع حيوية للقدرات اليمنية، وفي المقدمة ميناء الحديدة ومراكز القيادة.
    • تصريحات قيادية يمنية واضحة تربط أي اعتداء جديد باستئناف الرد على «إسرائيل» وعودة الضغط البحري في البحر الأحمر.
    • محاولات أدوات الاحتلال ومرتزقته اعتراض ما يسمونه “شحنات سلاح إيرانية” باعتبارها دليلاً على استمرار خطوط الدعم لحلف صنعاء.
    • تعبئة قبلية واسعة في الشمال، وتهيئة جغرافية عبر الأنفاق والكهوف، يقرأها التقرير كجزء من تحصينات دفاعية استعداداً لجولة قادمة.
    • الغارات الإسرائيلية السابقة التي استهدفت قيادات يمنية (مثل الغماري والرهوي)، والتي تُقدّم في التقرير بوصفها سياسة «قطع الرأس» الهادفة إلى استنزاف بنية القيادة.

    وبناءً على هذه المؤشرات، يخلص التقدير إلى أن:

    • احتمال تنفيذ “إسرائيل” ضربة قبل نهاية العام مرتفع جداً،
    • واحتمال الرد اليمني يُعدّ شبه مؤكد في حال وقوع الاعتداء.

    رابعاً: الهدنة اليمنية في الحسابات الأمريكية

    يتناول التقرير مستقبل الهدنة داخل اليمن باعتبارها إحدى أوراق الضغط غير المباشرة في أي تصعيد قادم. ووفق القراءة الأمريكية، فإن ضربة إسرائيلية واسعة قد تفتح ثلاثة مسارات متوازية:

    • إضعاف مؤقت للقوات المسلحة اليمنية على مستوى القيادة والسيطرة، بما يخلق «نافذة» للفصائل المدعومة إماراتياً لمحاولة التقدم ميدانياً.
    • إغراء الفصائل العميلة – وفي مقدمتها قوات العمالقة، دفاع شبوة، قوات الساحل، والفصائل المحسوبة على المجلس الانتقالي – باستغلال اللحظة بدعم أمريكي – إسرائيلي – إماراتي.
    • انهيار تدريجي للهدنة اليمنية القائمة منذ 2022، مع احتمال عودة خطوط التماس للاشتعال في أكثر من جبهة.

    لكن التقرير يعترف في الوقت ذاته بثلاث حقائق يصفها بـ«الصلبة»:

    1. القدرات اليمنية باتت متماسكة وموزعة جغرافياً بطريقة تجعل أثر الضربات الإسرائيلية محدوداً زمنياً وجغرافياً.
    2. السعودية غير راغبة في العودة للحرب المفتوحة، وتعتبر انهيار الهدنة تهديداً مباشراً لأمنها الداخلي وحدودها الجنوبية.
    3. الإمارات أكثر استعداداً للتصعيد من السعودية، لأنها أقل عرضة لرد يمني مباشر، ما يجعلها في نظر واشنطن الوكيل الأنسب للتقدم ميدانياً في لحظات الإرباك.

    لهذا يتوقع التقدير أن يظل التصعيد – إن حدث – في إطار حرب محدودة ومركزة لا تنفجر إلى مواجهة شاملة، لكنها تفتح الباب أمام فوضى أمنية طويلة الأمد تستنزف اليمن وتمنع حسم الصراع داخلياً.

    خامساً: البحر الأحمر والملاحة… قلب المخاوف الأمريكية

    تُظهر القراءة الأمريكية قناعة راسخة بأن أي رد يمني على “إسرائيل” سيعود إلى البحر الأحمر، عبر استهداف السفن المرتبطة بالكيان الصهيوني، أو بالولايات المتحدة، أو بالشركات الغربية الكبرى.

    وتقدّر واشنطن أن التبعات المتوقعة تشمل:

    • ارتفاعاً حاداً في أسعار التأمين البحري على الخطوط المارة عبر البحر الأحمر.
    • تحويل مسارات الشحن العالمية نحو رأس الرجاء الصالح، بما يزيد الكلفة الزمنية والاقتصادية للنقل.
    • ضغطاً اقتصادياً على الخليج ومصر نتيجة تراجع عوائد الممرات البحرية.
    • قلقاً متزايداً في أسواق الطاقة العالمية، مع ما يتيحه ذلك من مكاسب جيوسياسية للصين وروسيا في مسرح البحر الأحمر.

    ويقرّ التقرير بأن القدرة اليمنية على تهديد الملاحة لا تزال مرتفعة رغم الضربات، لعدة أسباب، أهمها:

    • اعتماد صنعاء على منصّات إطلاق متفرقة،
    • صواريخ بعيدة المدى مخفية،
    • طائرات مسيّرة انتحارية،
    • ونقاط إطلاق ساحلية مموّهة في عمق الساحل، تجعل من الصعب تحييدها بالكامل.

    سادساً: الخليج بين الرياض وأبوظبي في منظور RANE

    يُظهر التقدير اختلافاً واضحاً في مقاربة كلٍّ من السعودية والإمارات تجاه أي تصعيد قادم:

    • الإمارات: يقدّمها التقرير كطرف أكثر استعداداً لاستثمار أي إضعاف مؤقت لصنعاء لشنّ تحركات برية داخل اليمن، وترى في معركة اليمن – إسرائيل فرصة لاختبار حدود القدرات اليمنية، كما تعتبر البحر الأحمر، ولا سيما باب المندب والجزر الاستراتيجية كزقر وغيرها، مسرح نفوذ جديد تسعى لترسيخه.
    • السعودية: تُوصَف في التقرير كحليف متردد لا يتحمّل كلفة الانزلاق إلى حرب جديدة مع صنعاء؛ تخشى أن يدفع أي تصعيد أمريكي – إسرائيلي بالقوات اليمنية إلى استهداف منشآت النفط والبنية التحتية الحيوية في عمق أراضيها، وبالتالي تفضّل استمرار خارطة الطريق والحوار وتتعامل مع العودة الشاملة للحرب بوصفها تهديداً مباشراً للاستقرار الداخلي.

    سابعاً: ورقة «القاعدة» في الرواية الأمريكية

    يستدعي التقرير تنظيم القاعدة في جزيرة العرب لتأكيد أن أي انهيار للهدنة سيخلق فراغات أمنية في بعض المناطق، خصوصاً في شبوة وحضرموت حيث تنشط فصائل مدعومة إماراتياً يصفها التقرير بأنها بيئة رخوة.

    ويقدّر التقرير أن إمكانية توسع القاعدة نحو عمليات خارجية «محدودة» لكنها عالية التأثير إعلامياً، وهي قراءة تقليدية تُستخدم لإعادة تدوير خطاب:

    «ضرورة استمرار الوجود العسكري والاستخباراتي الأمريكي»
    في اليمن والبحر الأحمر والخليج، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب.

    ثامناً: دلالات استراتيجية عميقة

    من خلال تحليل النص الأمريكي، يمكن استخلاص عدد من الدلالات الجوهرية:

    • واشنطن و«إسرائيل» تتعاملان مع اليمن اليوم كجزء من محور الردع الإيراني، لا كملف محلي معزول.
    • الخوف الأكبر للأمريكيين ليس الصواريخ بحد ذاتها، بل معادلة البحر الأحمر وتأثيرها المباشر على الاقتصاد العالمي.
    • الإمارات تؤدي دور الوكيل الهجومي الذي يملأ الفراغ كلما تراجعت شهية السعودية للحرب.
    • السعودية تُدار كحليف ينبغي تطمينه لا تحريضه، خشية انفلات الوضع الداخلي.
    • الولايات المتحدة لا تريد حرباً شاملة مع اليمن، لكنها لا تمانع في استنزاف طويل المدى يمنع صنعاء من تثبيت دولة مستقرة وقادرة.
    • «إسرائيل» تميل إلى استمرار سياسة «قطع الرأس» باستهداف قيادات تعتبرها جزءاً من منظومة الردع اليمنية – الإقليمية.
    • ورقة «القاعدة» تُستدعى في كل مرة لتبرير إطالة أمد الوجود الأمريكي في البحر الأحمر والخليج.

    تاسعاً: تقدير الموقف العام

    تكشف قراءة تقرير RANE أن واشنطن لا تنظر إلى اليمن كحالة سياسية ذات حق في تقرير المصير، بل كـمسرح لهندسة المخاطر البحرية، وجبهة إضافية في صراعها مع إيران ومحور المقاومة، ونقطة اختراق محتملة لمعادلات الصين وروسيا في البحر الأحمر.

    ولذلك فإن تجدد الصراع اليمني – الإسرائيلي – الذي يعتبره التقدير مرجّحاً وقريباً – سيُقرأ في واشنطن ضمن معادلة ثلاثية واضحة:

    1. منع اليمن من فرض توازن ردع جديد مع “إسرائيل”.
    2. منع البحر الأحمر من التحول إلى ممر خارج الهيمنة الأمريكية.
    3. استخدام الهدنة داخل اليمن كأداة ضبط لقدرات صنعاء، لا كبوابة لحل سياسي متوازن.

    الخلاصة

    يقدّر الأمريكيون أن المواجهة الجديدة بين صنعاء والاحتلال الإسرائيلي مسألة وقت، وأن أي ضربة إسرائيلية ستُواجَه برد يمني مباشر، خصوصاً في البحر الأحمر، بما يعيد الضغط على الملاحة الدولية وأمن الطاقة في الخليج.

    وتتخوف واشنطن من أن يؤدي هذا التصعيد إلى:

    • إضعاف منظومة الهدنة في الداخل اليمني،
    • توترات خليجية متصاعدة بين الرياض وأبوظبي،
    • توسّع نفوذ الصين وروسيا في مسرح البحر الأحمر،
    • ورفع مكانة اليمن في معادلات الردع البحري الإقليمي.

    وبحسب القراءة الأمريكية ذاتها، فإن أي مواجهة مقبلة لن تكون هامشية، بل تحمل قابلية إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، وتحويل اليمن – موضوعياً – من «عامل تهديد» في الرواية الغربية إلى فاعل استراتيجي مؤثر في أمن المنطقة ومعادلاتها البحرية والعسكرية.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    إعداد: أنس القاضي

    spot_imgspot_img