من يتأمل مسيرة الرسالات الإلهية يدرك أن المرأة كانت في كُـلّ مرحلة من مراحل الهداية لبنةً أولى في بناء الإنسان، وصانعةً لجيلٍ يحمل قيم الإسلام، ويرتوي من أخلاق الوحي، ويشبُّ على مبادئه العظيمة.. وما ذكره القرآن من قصص النساء هو رسمٌ دقيقٌ لملامح المرأة حين تكون في مقامها الصحيح: أمًّا مربية، وزوجةً صالحة، ومؤمنةً ثابتة، وشاهدةً على الحق مهما كانت التحديات.
فاطمة الزهراء عليها السلام هي النموذج الذي يتجسد فيه النقاء في أصفى صوره، فهي الطهر الذي اختاره الله لتكون أم الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة.
كانت مدرسةً في الصبر والعفاف والزهد، انسجم فعلها مع قول ربها: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ}، فكأن الله جمع لها كُـلّ معاني الطيب وجعل منها وجهًا يتعلم منه المؤمنون معنى رضا الله في رضا رسوله.
وخديجة بنت خويلد عليها السلام كانت البرهانَ الحيَّ على أن المال حين يطهِّره الإيمان يتحول إلى جهاد.
فهي المرأة التي قال عنها النبي محمد -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ-: “ما أبدلني الله خيرًا منها”، لأن قلبها سبق الزمن، ومالها كان سندًا للدعوة، ونفسها كانت واحةً يستريح إليها رسول الله حين اشتد التكذيب.
وعندما يذكر القرآن قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فإن أول من جسَّد هذا البر من النساء كانت خديجة، التي أنفقت أغلى ما تملك؛ مِن أجلِ إعلاء كلمة الله ونصرة رسوله.
أما مريم ابنة عمران فقد جعل الله قصتها آيةً يتعبد بها الناس، لأنها بلغت في العفاف والطهر مقامًا قال فيه سبحانه: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}.
هي امرأة حملت أثقل ابتلاء يمكن أن يُبتلى به بشر، ومع ذلك وقفت بين يدي الله مطمئنة، تقرأ صمته قبل كلامه، وتستقبل مشيئته بطمأنينة القلب الواثق.
فجعل منها الله أمًّا لنبي كريم، لتبقى قصتها درسًا خالدًا في معنى الثبات على الطهارة ولو كانت الدنيا كلها في مواجهة امرأة واحدة.
وإذا كان الله قد جعل مريم مثالًا للعفاف، فقد جعل أم موسى مثالًا للتسليم، حين خاطبها بقوله: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، فالربط على قلبها هو سر المرأة المؤمنة، التي تلقي فلذة كبدها في اليمِّ امتثالًا لأمر ربها، فتغدو أمومتها عبادةً، ودموعها جسرًا يمر فوقه الفرج الإلهي، فيخرج موسى من اليمِّ ليكون نبيًّا يهزُّ عروش الطغاة.
ويتجلى الحياء في أرقى معانيه في ابنتي شعيب عليه السلام، اللتين وصفهما الله بقوله: {تَمْشِي عَلَى استحياء}، وكأن الحياء في القرآن لم يجد مكانًا أنسب ليُجسَّد فيه من خطوات هاتين الفتاتين.
إنهما صورة المرأة التي تجمع بين العفة والفاعلية، بين الطهر والعمل، بين الحشمة والمبادرة.
ويكتمل المشهد القرآني بامرأة ضرب الله بها مثلًا للذين آمنوا، امرأة فرعون، التي لم تخشَ الطغيان، ولم تركع للجبروت، بل رفعت صوت روحها قائلة: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
كانت وحدها في قصر يعج بالظلم، لكنها اختارت طريق الله، فخلَّد القرآن موقفها ليبقى شاهدًا على أن الإيمان حين يملأ قلب المرأة يجعلها أُمَّـة وحدها.
وعندما نلتفت إلى الواقع نجد أن المرأة اليمنية كانت النموذج الأحدث لهذه المدرسة القرآنية، فقد وقفت في وجه العدوان بصلابة لا تُجارى، وقدمت أبناءها للجبهات، وشاركت بمالها، وبيديها أعدَّت الطعام والملابس، فكانت روح الجبهة الداخلية، وكانت الصورة التي برهنت أن الثبات ليس حكرًا على الرجال، وأن الأُمَّــة التي تقف فيها نساؤها ثابتات لا تُهزم.
ومع ذلك نرى اليوم حربًا ناعمة تستهدف المرأة وتسعى لجرِّها إلى مساحات لا تنسجم مع قيم الدين ولا مع أصالتها، محاولين تغليف الانحراف باسم “التحضُّر”، وتسمية الالتزام بالحياء “تخلُّفًا”، بينما المرأة التي تعمل مع زوجها في تربية الأغنام أَو الأبقار ليعيشا بكرامة يسمونها “بدائية”، مع أن هذا العمل أرقى من آلاف الوظائف التي تقتل روح الأسرة وتجرُّ المرأة إلى اختلاط يذهب بجمال طبيعتها.
هذا الاضطراب في المقاييس ليس إلا سقوطًا في وهم الحداثة الفارغة، فالمرأة التي تحفظ بيتها، وترعى أبناءها، وتعمل مع زوجها، وتعيش وفق فطرتها، هي الأكثر إسهاما في بقاء المجتمع صالحًا.
والمرأة في حقيقتها هي المجتمع كله، لأنها تربي نصفه الآخر.
فإذا صلحت صلح الجيل، وَإذَا فسدت انكسر ميزان الأُمَّــة.
المرأة الصالحة هي التي تمزج بالثبات، وتربي أبناء ينفعون الأُمَّــة ويخدمون الدين ويساهمون في صناعة مستقبل يحمل النور لا الظلام.
والمرأة اليوم بحاجة إلى أن تتأمل هذه النماذج القرآنية، وأن تستعيد يقينها بأن عظمتها لا تكمن في خروجها للوظائف ولا في تقليدها لنماذج دخيلة، بل في حفاظها على هويتها التي كرمها الله بها.
ومن خير الوصايا: أن تجعل رضا الله قبلة حياتها، وأن تحفظ قلبها من فتن العصر، وأن تزن خطواتها بميزان القرآن، وأن لا تفرط في حيائها الذي جعله النبي شعبةً من الإيمان.
وأن تدرك أن بناء الجيل يبدأ من حضنها وكلمتها وصبرها، وأن الأُمَّــة التي تنهض نساؤها تنهض كلُّها، والأمة التي تُفتن نساؤها تسقط كلُّها.
فلتكن كُـلّ امرأة امتدادا لزهراء طاهرة، وخديجة معطاءة، ومريم عفيفة، وأم موسى مسلِّمة، وامرأة فرعون ثابتة، وامرأة يمنية صامدة؛ لتكون حياتها شاهدًا على نور القرآن في واقع البشر.
