في عالمٍ تُدارُ معاركه من خلف الشاشات، وتُصاغُ مؤامراته في أقبية الاستخبارات، لم يعد الاختراق فعلًا تقنيًّا عابرًا، بل تحوّل إلى أخطر أسلحة هذا العصر؛ سلاحٍ لا يُسمَع له وقعٌ، ولا يُرى له ظلٌّ، لكنهُ يهدمُ الأمم من داخلها كما تهدّ المعاولُ أَسَاس البناء.
ومن هنا تتولّد الحاجةُ إلى وعيٍ يقظٍ يُميّز الصديق من العدوّ، ويفضح أقنعة العملاء الذين يمشون بين الصفوف كأشباحٍ لا يُسمَع لهم صهيلُ خيانةٍ إلّا بعد أن يكتمل الخراب.
أولًا: مفهومُ الاختراق.. خنجرٌ يزرعُه العدوّ في قلب المؤسّسة
الاختراق ليس مُجَـرّد دخولٍ سرّي، بل عملية معقّدة تُدارُ بمزيجٍ من علم النفس والأمن والمعلومات، تُفضي إلى زرع عنصرٍ بشريٍّ أَو تقنيٍّ قادر على جمع الأسرار، تحريك القرارات، تفكيك المؤسّسة، أَو جرّها إلى مسار يخدم مصالح العدوّ.
ووفقًا لرؤية السيّد عبدالملك الحوثي، حفظه الله، فَــإنَّ الاختراقَ جزءٌ من “الهجمة الأمريكية الإسرائيلية الشاملة” التي تهدفُ إلى “إيصال الأُمَّــة إلى حالة الانهيار الكامل” والسيطرة على مقدراتها، كما أن جزءًا كَبيرًا منه يتمّ عبر الاختراق الثقافي والفكري الذي يضرب الهوية والقيم من الداخل.
ثانيًا: أنواع ومجالات الاختراق وتجنيد العملاء
للعدوّ وجوهٌ عدّة في الاختراق، أهمُّها:
الاختراق الأمني والاستخباراتي: استهداف غرف العمليات وأجهزة الأمن، ونقل الأسرار العسكرية إلى يد العدوّ.
الاختراق السياسي: زرع العملاء في الوزارات ومراكز القرار لسرقة الإرادَة الوطنية.
الاختراق الاقتصادي والتقني: سرقة التقنيات والموارد والثروات، وهو أخطر من الحرب الاقتصادية المباشرة.
الاختراق الإعلامي والفكري: التلاعُب بالوعي، صناعة رأي عام مزيَّف، وخلق خطاب يضرب الهُوية من الداخل.
وهذا النوع – كما تقول التجارب – هو “ورقة العدوان الأخيرة والخطيرة”؛ لأَنَّه يستهدف تفكيك المنظومة الأخلاقية وبثّ المحتوى التافه لسلخ المجتمع عن قيمه.
الاختراق الاجتماعي: إثارة النزاعات الداخلية عبر جمعيات وأنشطة مشبوهة.
ثالثًا: خطورة الاختراق وتجنيد العملاء
خطورة هذا السلاح في أنه لا يُرى.. ولا يُكتشف إلّا بعد فوات الأوان.
ومن أخطر مظاهره:
انهيار الثقة داخل المؤسّسات.
شلّ القرار الوطني.
تسريب الخطط العسكرية.
نشر الفوضى وتقويض الجبهة الداخلية.
استنزاف الدولة دون إطلاق رصاصة واحدة.
وتقول الأدبيات الأمنية: “خطر الحرب الناعمة لا يقل عن القنبلة النووية”، فالعميل لا يمثِّل نفسه..
بل هو خيانةٌ تمشي على قدمين وتخدم العدوّ الإسرائيلي مباشرة.
رابعًا: مراحل الاختراق والتجنيد
الهندسة الاستخباراتية للتجنيد تمرّ بست مراحل دقيقة:
الاختيار والترشيح: استهداف الشخص المناسب عبر نقاط ضعفه.
الاقتراب والتطوير: بناء علاقة وثيقة وصياغة غطاء نفسي.
التجنيد: إغراء – إقناع – ابتزاز.
التدريب: تعليم الإسقاطات، التأمين، وجمع المعلومات.
التشغيل: تنفيذ المهام المكلّف بها.
الإنهاء: التخلص من العميل أَو تجميده.
خامسًا: أساليب الاختراق والثغرات التي يدخل منها العدو
يعتمد العدوّ على ثلاث بوابات كبرى:
بوابة الرغبة (المال – المنصب – الرفاه): الثغرة: الجشع وضَعف الإيمان.
بوابة الخوف (الابتزاز والتهديد): الثغرة: الأخطاء الأخلاقية والاضطراب النفسي.
بوابة الفكر (بثّ الشبهات وإعادة تعريف الخيانة): الثغرة: الاضطراب الفكري والانحراف عن الهوية الإيمانية والتنكر للمنهج القرآني.
وتتشعب الأساليبُ عبر العلاقات العاطفية، الروابط العائلية، الإحباط الوظيفي، والصدمات النفسية.
سادسًا: سُبُل مواجهة الاختراق وتحصين الداخل
المواجهة ليست أمنية فقط، بل شاملة:
التحصين الفكري: بناء وعي قرآني عميق – كما يؤكّـد السيد القائد – فهو “المفتاحُ الرئيسي لإفشال المؤامرات”، وهو “الحصن الحصين الذي لا يمكن اختراقه”.
العدالة الداخلية: القضاء على “الغبن والتهميش”؛ فالشعور بالظلم أكبرُ بوابة للتجنيد.
التدقيق الأمني المُستمرّ: مراجعة التعاملات، العلاقات، الأنماط السلوكية.
الوعي الأمني: تثقيف الناس بأساليب العدوّ، مع التأكيد على أن الخطر اليوم يأتي بصوتٍ ناعم ورسالة واتساب لا بصوت بندقية.
والمطلوب: وعي حقيقي بالعدوّ ومكائده.
العزل الأمني للمعلومات: تقسيم الأسرار، وتوزيع الصلاحيات بحيث لا يمتلك شخصٌ واحد المفاتيح كلها.
قنوات الإبلاغ الآمنة: حماية المبلّغين؛ لأَنَّ الأمنَ مسؤولية جماعية لا مجاملة فيها.
الخاتمة: اليمن.. القلعة التي تتكسّر على أبوابها كُـلّ محاولات الاختراق
ستظل اليمن – بأرضها، برجالها، بوعيها القرآني – عصِيّةً على الاختراق مهما اشتدت المؤامرات.
فالعدوّ قد يخترق دولًا عظمى.. لكنه لا يجد ثغرة في شعبٍ وُلد مقاومًا، وتربّى على قول الحق، وحمل راية التحرّر من الطغيان.
وفي اليمن يُهزَم العميل قبل أن يبدأ، ويُكشف المخترق قبل أن يخطو؛ لأَنَّ الوعي جزءٌ من طبيعة هذا الشعب.
وستسقط قوى الاستكبار لا بالصواريخ فقط.. بل بوعيٍ شعبيٍّ يحرس أبواب الأُمَّــة ويغلق كُـلّ نافذة يحاول العدوّ التسلل منها.
وما دام اليمن واقفًا.. فكل اختراق إلى زوال.
