تتسارع الأحداث في الجنوب والشرق اليمني في مشهد يُعيد رسم خريطة النفوذ بين مرتزقة الحليفين اللدودين: الرياض وأبوظبي. ففي خطوة بدت أقرب إلى انقلاب استراتيجي صامت، واصلت السعودية، يوم الاثنين، انسحابها المنظم من كافة مناطق وجودها العسكري والمدني جنوبًا وشرقًا، في ما يشبه عملية إعادة تموضع شاملة تمهد لإسقاط حلفائها السابقين — وعلى رأسهم ميليشيا المجلس الانتقالي الجنوبي الموالي للإمارات — دون خوض مواجهة مباشرة.
وبدت التحركات السعودية دقيقة ومركّزة؛ فبينما كانت الطائرات العسكرية تنقل آخر طواقم الرياض من عدن وحضرموت والمهرة، كانت قوات المرتزقة التابعة لها والمعروفة بـ“درع الوطن” تُعاد انتشارها على طول الحدود اليمنية السعودية. وفي الوقت ذاته، جرى إجلاء الطواقم الطبية والفنية من مستشفيات عدن وإغلاق الأجواء اليمنية أمام جميع الرحلات، حتى تلك التابعة للتحالف نفسه.
اللافت أن هذه الخطوات ترافقت مع إغلاق متزامن لمطاري عدن والريان، أكبر القواعد الإماراتية في الشرق اليمني، ما فسّره مراقبون بأنه فرض حصار جوي شامل على مناطق سيطرة الفصائل الإماراتية. وقد تلقّت إدارات المطارات أوامر سعودية صريحة بإلغاء جميع تصاريح الطيران العسكري والمدني من وإلى تلك القواعد.
وبحسب مصادر دبلوماسية غربية، تسعى الرياض من خلال هذا الانسحاب المتدرّج إلى دفع الإمارات نحو المجهول السياسي والأمني في الجنوب، إذ تُرغمها على تحمّل عبء السيطرة المباشرة على محافظات مضطربة، في وقتٍ تشهد فيه عدن انهيارًا في الخدمات وانفجارًا في الأزمات الاقتصادية.
في موازاة ذلك، أغلقت السعودية خطوط إمداد النفط والغاز من مأرب نحو مناطق سيطرة الانتقالي، ما يعني تجفيف الموارد المالية عن حكومة المرتزقة، بالتزامن مع تصريحات لـ“رشاد العليمي” من الرياض لوّح فيها بنقل المركز القانوني للدولة من عدن، في رسالة قاطعة تُفهم بأنها إعلان انتهاء الغطاء السعودي للمجلس الانتقالي.
سياسيًا، أطلقت الرياض مبادرة دبلوماسية جديدة لعزل الإمارات خليجيًا. فقد شهدت العاصمة السعودية قمة استثنائية جمعت ولي العهد محمد بن سلمان وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، جرى خلالها توقيع اتفاق دفاع مشترك وسكة حديد استراتيجية بين البلدين — خطوة غير مسبوقة منذ الأزمة الخليجية — فُسّرت على أنها رسالة سياسية صريحة لأبوظبي بأن الرياض قادرة على بناء محور إقليمي جديد دونها.
على الصعيد الدولي، دخلت الرباعية الدولية (واشنطن، لندن، باريس، والرياض) على الخط، حيث كشفت تقارير غربية عن اتصالات حادة جرت ليلة الأحد مع رئيس المجلس الانتقالي عيدروس الزبيدي. وخلال تلك الاتصالات، وجّه السفراء الثلاثة تحذيرات مباشرة له من مغبة إعلان الانفصال أو اتخاذ أي خطوات أحادية، ملمحين إلى إمكانية “إسقاط عدن” عسكريًا إن تم تجاوز الخطوط الحمراء.
وبحسب “الغارديان” البريطانية، فإن الرباعية جمدت مؤقتًا ملف الانفصال الجنوبي، معتبرة أن المجلس الانتقالي بات يمثل عبئًا على التحالف، ودعت إلى فتح قنوات اتصال مع صنعاء في إطار “خارطة الطريق الأممية الجديدة”، في ما اعتُبر تغييرًا جوهريًا في موقف الغرب من الملف اليمني.
في الداخل، انعكست هذه الضغوط سريعًا؛ إذ عاودت قيادات ميليشيا الانتقالي الاجتماع مع مسؤولي حكومة المرتزقة في “قصر معاشيق” بعد انقطاع طويل، فيما ظهر أبو زرعة المحرمي ووزير الدفاع ومحسن الداعري بزي الحكومة اليمنية الرسمي لا بزيّ الانفصال، وهو ما فُهم على أنه تراجع اضطراري أمام الضغط السعودي والدولي.
اقتصاديًا، وجّه رشاد العليمي تحذيرًا صريحًا من “انهيار وشيك” في المناطق الخاضعة للتحالف، مؤكدًا أن التحركات العسكرية “الأحادية” تهدد استقرار العملة والإصلاحات الاقتصادية، في حين كشفت تقارير عن إجلاء عدد من الوزراء من عدن تزامنًا مع الانسحاب السعودي. وأشارت “رويترز” إلى أن حكومة المرتزقة تواجه أزمة مالية هي الأخطر منذ 2016، بينما تتوقع مصادر اقتصادية انهيارًا متسارعًا في سعر العملة المحلية خلال الأيام المقبلة.
في خلفية المشهد، تتّضح ملامح خطة سعودية بعيدة المدى لإعادة هندسة مشهد الجنوب اليمني دون مواجهة مفتوحة مع الإمارات. فبينما تترك الرياض الجنوب يغرق في فوضى اقتصادية وأمنية، فإنها تحضّر لمسرح جديد من التوازنات شمالًا وشرقًا، وتعيد بناء نفوذها من الخارج عبر الضغط المالي والدبلوماسي، لا عبر فوهات البنادق.
