المشهد اليمني الأول/

 

تعطي قراءة التاريخ في الظرف العصيبة والعاصفة وقودًا لرحلة الحاضر والمستقبل أيضًا، وحتى إذا كان التاريخ لا يعيد نفسه، كما قال كارل ماركس، فإنه يتمتع بقوانين راسخة، تحكم على الواقع والصراعات والعلاقات بين القوى، كما تحكم الجغرافيا مجال الحركة ومدى التراجع أو التقدم المتاح، وهذا كله رهن بقراءة واعية، وإلا تحولت إلى نوع من الترفيه أو حواديت قبل النوم.

 

 

ولأن عالم اليوم هو ابن شرعي لأكبر صراع في تاريخ البشرية، الحرب العالمية الثانية، فإن هذه الحرب تبقى أكبر مدارس التاريخ المعاصر، وأكثر لحظات الإنسانية ثراءً، فإن الحرب هي معركة الإرادة باستخدام أقوى الأسلحة، وهي ميدان الصراع الإنساني على الموارد والخيرات منذ القدم، ومشاهد الحرب العالمية الثانية تصلح ف وقتنا الحالي للاستقراء والاستفادة، خاصة مع قرب نهاية طلقات الرصاص وهدير المدافع في اليمن، والانطلاق نحو جولة صراع جديدة، باستخدام أساليب أخرى لا تقل عن السلاح فتكًا، وتهدد المستقبل بأكثر مما تفعل الدبابات.

 

 

موقعة دنكيرك “Dunkirk” التي وقعت في فرنسا، بين جيوش ألمانيا النازية من جهة، والجيوش الفرنسية والبريطانية والبلجيكية من جهة أخرى، مثلت أحد اللحظات التي صنعت انتصار الحلفاء النهائي فيما بعد، رغم كونها هزيمة ساحقة، أعقبها إخلاء كامل للساحل الفرنسي، وترك باريس وشمال فرنسا تحت رحمة الجيوش الألمانية، بلا دفاع.

 

 

تبدأ قصة المعركة، الأكثر إثارة للجدل حتى يومنا هذا، بالهجوم الألماني على الجبهة الفرنسية، باستخدام تكتيك “حرب البرق” أو الحرب الخاطفة، وعبر خطة الجنرال الألماني فون مانشتاين، وتطويق نخبة الجيوش الفرنسية وكل القوات البريطانية والبلجيكية في ساحل دنكيرك، بعد دفعهم للتراجع المستمر من بلجيكا وحتى شاطئ القنال الإنجليزي، خلال أيام فقط.

 

 

حوصر نحو 400 ألف جندي بكامل معداتهم وسياراتهم، في ما أصبح يسمى “قوس العذاب”، دبابات بانزر الألمانية على الأرض، وطائرات اللوفتوافا في السماء، تصب عليهم الجحيم، وأعطى ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا الإشارة لعملية دينامو، لإجلاء القوات المحاصرة، قبل أن تصبح فريسة للأسر أو القتل، وقتها منحت أوامر هتلر لقواته بالتوقف للحصول على 3 أيام من الراحة في توفير الوقت والفرصة للإنجليز.

 

 

وسط السيطرة النازية على السماء، ووجود الغواصات الألمانية في مياه البحر، قامت الزوارق الصغيرة وسفن الصيد بدور البطولة في العملية دينامو، الشعب البريطاني خرج لإنقاذ جيشه المحاصر، ونجح المدنيون في إنقاذ 338 ألف جندي بريطاني وفرنسي، انسحبوا تاركين معداتهم بالكامل غنيمة باردة للألمان.

 

 

المعركة التي أرادها النازي هتلر محطمة لإرادة القتال لدى أعدائه، كانت السبيل أمامهم للدرس والتعلم، والتخطيط الجيد لباقي مراحل الحرب، فاجتذبوا الولايات المتحدة للقتال إلى جانبهم، وقبلها بثت الدعاية البريطانية ما أصبح سيعرف لاحقًا بروح دنكيرك، المعبرة عن التلاحم بين الشعب والجيش، وحشد الموارد كلها في سبيل هد الانتصار، وقبلها صنعوا لحربهم مع هتلر ودول المحور مشروعية أخلاقية، ما مكنهم من كسب الرأي العام العالمي كله إلى صفوفهم، إضافة إلى ضمان الولاء والعطاء اللامحدود لمواطنيهم، اعتمادًا على مشروعية تضفي بدورها الأخلاقية على صراعهم مع الفاشيين.

 

 

الحماسة الألمانية الجارفة في السنوات الأولى جاءت كنبت أصيل للثقة، في قيادة تحقق الانتصارات السريعة الواضحة، ومع تبدد الثقة، وفشل الدعاية الألمانية في استعادتها أو إضفاء الأخلاقية والشرعية على معاركها، ضاع كل شيء، وتبدد أمل استمرار المشروع النازي في بلده، لأن الحرب بطبيعتها عبء طويل وثقيل، يستلزم اليقين أو الإيمان، هذا بالطبع إلى جانب القوة، وربما تسبقها.

 

 

الحرب العدوانية على اليمن اجتمعت لها كل عوامل الشرعية والأخلاق، تقف إلى جانب الشعب والجيش وأنصار الله، في مواجهة عدو فاجر، فشل حتى في حشد التأييد في بلاده، فمن السعودية إلى مصر والسودان لن تجد فرقًا يذكر، إلا النفخ في العداء لإيران والتخويف منها، بسبب الاختلاف المذهبي، وهذا العامل الذي يلعب عليه الإعلام الخليجي (السعودي والإماراتي) كمن يحرق أصابعه بالنار وهو يلهو، فالجزيرة العربية أيضًا بها شيعة، وهم مواطنون أيضًا ولهم حقوق، واستدعاء النعرة الطائفية بهذه الكثافة يخلق في المستقبل القريب عداوات في البلد الواحد، سيكون من الصعب إطفائها.

 

 

في المقابل، ورغم المدفوعات الهائلة من الخليج لضمان سكوت العالم عن جرائمهم في ياليمن، فإن الجميع يتكلم الآن، وبات الاستمرار في عدوانهم شكلًا من أشكال العناد مع الواقع والضمير، وبالتالي فإن الفرصة سانحة لليمنيين أن يستكملوا بالسياسة ما أنجزوه بالسلاح، ووضع انتصارهم كحقيقة واقعة، وكسب الصراع على عقل العالم بعد أن ربحوا الصراع على ضميره.

 

 

اليمن أمامها تحد هائل، مشروع دولة حديثة، يقدم لمن حولها في جزيرة العرب، من الشعوب المقهورة بحكامها ونظمها الاجتماعية البائدة، الأمل في حل ومستقبل، والقيادة التي استطاعت الصمود الأسطوري في وجه العدوان الهمجي قادرة على رسم هكذا مستقبل.

 

 

أحمد فؤاد – كاتب مصري