مقالات مشابهة

أولويات جديدة لواشنطن تصيب الحلفاء بالذعر

لم يعد مهماً النقاش مع الذين حاولوا بحسن نية ومخاوف مشروعة، أو بسوء نية لتجميل صورة الهزيمة الأميركية، بالقول انّ واشنطن انسحبت من أفغانستان ضمن خطة هجومية لتفجير ألغام بوجه روسيا والصين وإيران، فكل ما جرى منذ الإعلان الأميركي بدء الإنسحاب يظهر حجم الارتباك الأميركي، وحجم الانهزام السياسي الذي تتحرك تحت وطأته،

وجاء المثال غير المسبوق في كيفية التعامل الأمريكي مع ما بعد تفجيرات مطار كابول وسقوط الجنود الأميركيين بين قتلى وجرحى، وخروج القيادة الأميركية بعدها لتسريع الإنسحاب غير آبهة بمعنويات جيشها وسمعتها ومهابتها، التي كانت إصابتها بأضرار أقلّ مما حدث في مطار كابول كافية لغزو دول وإشعال حروب، ونصف النفوذ في العلاقات الدولية يقوم على المعنويات والمهابة، ويظهر في المقابل أنّ الثلاثي الروسي الصيني الإيراني يتفاعل إيجاباً مع ما بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان.

ورغم كل الحذر الذي حكم تاريخ العلاقة بحركة طالبان، تبدو علاقات الثلاثي مع طالبان وأفغانستان ما بعد الإنسحاب مفتوحة على المزيد من الإيجابية، ويكفي كمثال، بقاء السفارات العائدة لهذه الدول في كابول تقوم بمهامها، في ظل سيطرة طالبان وعدم شعورها بالذعر الذي اجتاح السفارات الغربية، وتالياً الامتناع الروسي الصيني عن التصويت على المشروع الفرنسي البريطاني الذي أقرّه مجلس الأمن، والذي يخاطب طالبان بلغة التحذير والشروط.

لم تعد واشنطن تخفي الخلاصة الرئيسية التي حكمت قرارها بالانسحاب من أفغانستان، وتحملها الجراح المعنوية لتبعات الانسحاب، والجراح المادية التي رافقته، وجوهر هذه الخلاصة كما بكرر الرئيس الأميركي جو بايدن، أن القوة العسكرية لم تعد أداة صالحة للتأثير في نوعية أنظمة الحكم في الدول التي كانت تلجأ واشنطن الى الحرب لإلحاقها بمعسكر التبعية، وفرض المثال الغربي عليها، ورسم سقف جديد لمبررات التدخلات العسكرية يجعل الأمن القومي الأميركي هدفاً وحيداً تستخدم القوة العسكرية في حمايته، والمقصود هو حماية الداخل الأميركي من أي خطر حصراً.

وهو هدف وجود القوة العسكرية في الدول الصغرى، بعكس كلّ نظريات المدى الحيوي للمصالح الذي قامت عليه نظريات التوسع والهيمنة، وتمييز الدول الكبرى والدول العظمى عنها، واللجوء الى الأدوات السياسية والاقتصادية والحروب الناعمة لتحقيق المصالح الاستراتيجية الأميركية، وفقا لما يرسمه بايدن وإدارته، في الحديث عن مواجهة قادمة مع الصين أو مع روسيا، وخصوصا مع إيران، وبالبداهة فإن من عجز عن تغيير أفغانستان بالقوة لا يمكن أن يفكر بالحرب مع إيران.

يثير المنهج الجديد لرسم الأولويات الأميركية عاصفة من التداعيات، لدى أقرب الحلفاء لواشنطن، ولا يحتاج المرء الى التنقيب عن المواقف الصارخة والمتكررة في دول حلف الناتو الأهم، سواء بريطانيا أو فرنسا أو سواهما، ليكتشف مصطلح الخيانة الأميركية.

أو أن واشنطن ظهرت حليفاً لا يمكن الاعتماد عليه، أو حليفاً غير جدير بالثقة، والوصول لاستنتاجات من النوع الذي صاغه جوزيب بوريل مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي عن الحاجة لبناء قوة عسكرية أوروبية مستقلة عن واشنطن والناتو للدفاع عن المصالح الخارجية لدول الاتحاد، وهو كلام كاف للتعبير عن الذعر الذي يصيب الحلفاء الذين بنوا سياسات دولهم على الاستثمار المشترك في الحروب تحت الراية الأميركية، ويسمعون بالتغيير الأميركي من الإعلام.

وهو ما قصده بوريل بعدم سؤال أوروبا عن رأيها، والقصد ابعد من قرار الانسحاب من أفغانستان، وهو جوهر التخلي عن الرهان على القوة العسكرية لفرض المصالح السياسية، وهذا يكشف حجم الذعر الأوروبي من الاستراتيجيات الأميركية الجديدة، بمعزل عن مدى قدرة أوروبا على بلورة تدخلات عسكرية مؤثرة دون الاستناد على القوة الأميركية، وهو ذعر لا يخص أوروبا وحدها، بل يصيب كل الحلفاء الذين بنوا علاقتهم بواشنطن، على حجم تأثير قوتها العسكرية، وبنوا سياساتهم وعدواتهم وصداقاتهم على إعتبار هذه القوة وتأثيرها عاملاً غير قابل للتغيير.

في طليعة المذعورين في المنطقة، ثلاثة، كيان الاحتلال الذي سارعت نخبه السياسية للحديث عن قلق مصيري ووجودي في ضوء الاستراتيجية الأميركية الجديدة، التي عبر عنها قرار الانسحاب من أفغانستان، والذي يتوقع «الإسرائيليون» أن تليه انسحابات، ولو تأخرت قليلا، من العراق وسورية، ويبشرون بمرحلة مقبلة عنوانها «إسرائيل» وحيدة، أمام موازين قوى تغيّرت بعكس صالحها في المحيط القريب والبعيد.

الطرف الثاني الذي بدأ يستشعر بالخطر هو القيادات الكردية التي عملت في سورية تحت راية الاحتلال الأميركي، وقطعت كل جسور التواصل مع الدولة السورية بوهم أبدية الحماية الأميركية، أما الطرف الثالث الذي لا يخفي ذعره فهم عرب التطبيع الذين يشعرون بأنهم قد يكون عليهم دفع فواتير سيرهم وراء النصائح الأميركي بالتطبيع، فيما الأميركي غير مستعد لحماية توقيعه وموقعه في الصور التذكارية، مستعيدين تجربة الانسحاب الأميركي من لبنان وما رافقه من تداعيات يرويها الرئيس السابق أمين الجميّل في مذكراته.

وتركه يواجه وحيداً التركة الأميركية المسماة بإتفاق السابع عشر من أيار الذي لم يصمد طويلاً بعد هذا الانسحاب، بعدما صار إلغاؤه شرطاً لاستعادة الحدّ الأدنى من الاستقرار مع الداخل اللبناني والجار والشقيق السوري الذي أخذ الأميركي على عاتقه تحجيمه لحماية الاتفاق، كما وعد دول التطبيع بتحجيم إيران.

البعض يضع قمة بغداد بين قوسين، بصفتها قمة المذعورين، لوصل منخفض مع إيران استعداداً للآتي، كي لا يكون أعظم، بعد انسحابين متوقعين للقوات الأميركية من كلّ من سورية والعراق.
____
ناصر قنديل