الشرق الأوسط مُقبل على تحوّلات قد تغيّر وجهه وربما ملامحه، وقد تؤدّي في بعض مراحلها إلى بروز كيانات واختفاء أخرى، لكن المؤكّد أنّ وجه هذا الشرق لن يكون إسرائيلياً.
منذ خطابه الأول الذي تلا هجوم “طوفان الأقصى” المجيد، وما تبع ذلك من خطابات وإطلالات متعاقبة، حرص رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو على رفع شعار “تغيير وجه الشرق الأوسط”، والقضاء على كلّ أعداء “إسرائيل” القريبين والبعيدين.
وقد بدا واضحاً خلال الشهور التي تلت الطوفان أنّ “الدولة” العبرية سعت بالفعل إلى تحقيق هذا الهدف، مستفيدة من الدعم الأميركي غير المسبوق، والذي وصل إلى مرحلة متقدّمة من التعاون والتنسيق بين الحليفين الاستراتيجيين، بل وزاد على ذلك من خلال المشاركة الأميركية المباشرة في الكثير من المهام العسكرية والاستخبارية في كلّ الساحات التي شملتها المواجهة مع العدو الصهيوني، وخصوصاً في الساحة اليمنية، والتي تحوّلت إلى جبهة الإسناد الرئيسية لقطاع غزة بعد توقّف نظيراتها في لبنان والعراق لأسباب يعرفها الجميع.
إضافة إلى الموقف الأميركي، فقد استفادت “إسرائيل” في سعيها المُشار إليه أعلاه من الموقف الدولي والعالمي المنحاز، والذي كان وما زال عدا بعض الاستثناءات ينظر إلى مجريات الأمور في المنطقة عموماً، وفي غزة خصوصاً من خلال العين الإسرائيلية، تلك العين التي ترى أصحاب الحقّ بأنهم “إرهابيون”، وتنظر إلى العدوان وجرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها العدو بأنها دفاع عن النفس.
إلى جانب ما سبق فقد استغلّت “الدولة” العبرية الموقف العربي والإسلامي الضعيف والعاجز بأفضل طريقة ممكنة، إذ إنّ هذا الموقف الذي لم يكن مُتوقّعاً أو مُنتظراً من تلك الدول والممالك والإمارات تجاه إخوانهم في فلسطين، قد منح العدو كامل المساحة والوقت ليرتكب ما شاء من جرائم، وليذهب بعيداً في ضربه عرض الحائط بكلّ القوانين الضامنة لحقّ الإنسان في الحياة حتى لو كان تحت الاحتلال، أو في أوقات الحروب والنزاعات.
على كلّ حال، وبما أن “الدولة” العبرية قد استفادت واستغلّت كلّ الأجواء التي هُيّئت لها للمضي قدماً في خططها لتغيير وجه المنطقة، ومن أجل فرض نفسها كشرطيّ وحيد يضرب بعصاه الغليظة كلّ أعدائه ومخالفيه، وبعد إعلان العديد من قادتها بأنهم تمكّنوا فعلاً من تحقيق هذا الهدف، وأنّ ما كانوا يسعون إليه منذ سنوات طويلة قد أصبح فعلاً حقيقة واقعة، وأنّ أعداءهم تعرّضوا لانتكاسات كبيرة ومؤلمة وغير مسبوقة، بعد كلّ ذلك يبرز سؤال مهمّ وجوهري عن حقيقة هذا الإعلان ومدى مطابقته للواقع، وهل فعلاً تمكّنت “إسرائيل” من تغيير وجه الشرق الأوسط على الشكل الذي تريده؟ وهل نجحت في ردع أعدائها، ودفعهم للتراجع إلى الوراء؟
هناك وجهة نظر تقول إنّ المنطقة شهدت بالفعل الكثير من التطوّرات والتحوّلات خلال الأشهر الأخيرة، وهي تشير بوضوح إلى أنّ هناك جملة من التغيّرات قد جرت، وفي المقدّمة منها سقوط النظام السوري السابق، إلى جانب توقّف جبهتي الإسناد اللبنانية والعراقية، بل وتراجع ملحوظ في الموقف الإيراني الداعم للقضية الفلسطينية، ولا سيّما في ضوء انشغال الجمهورية الإسلامية في قضايا أخرى تراها أكثر أهمية.
إلا أنه في حقيقة الأمر، وبعد قراءة المشهد من زوايا أخرى، وبعيداً عن النظرة السطحية المبالغ فيها من قبل البعض، لا يبدو أنّ الاحتفاء الإسرائيلي بما تحقّق من “إنجازات” يعبّر عن واقع حقيقي، وأنّ جزءاً كبيراً منه يدخل في إطار حملة كبيرة من الكذب مارسها الكيان منذ بداية العدوان على غزة، وأصبح يستخدمها للتغطية على عجزه وفشله المتراكم، والذي تُقرّ به كبريات مراكز البحث العالمية، إضافة إلى وسائل الإعلام العبرية، والتي تعتقد أنّ الائتلاف الحاكم في “إسرائيل” يحاول الهروب من استحقاقات ما بعد الحرب بواسطة بروباغندا سوداء يستخدمها لإخفاء سلسلة طويلة من الإخفاقات الاستراتيجية، مستغلّاً بعض الإنجازات التكتيكية التي سرعان ما يخبو بريقها، وتسقط نتائجها.
فيما يخصّ قطاع غزة يدّعي العدو أنه تمكّن من تحقيق معظم أهدافه التي أعلن عنها في بداية العدوان، وفي المقدّمة منها القضاء على فصائل المقاومة، أو على الجزء الأكبر من قدراتها العسكرية وقياداتها المركزية، إلى جانب تدمير جزء كبير من المناطق العمرانية في القطاع، وهذا الأمر تحديداً يعتبر هدفاً أساسياً للحرب وإن كان لم يعلن عنه بشكل رسمي.
هذا الأمر ينسحب أيضاً على الضفة الغربية المحتلة، ولا سيّما محافظاتها الشمالية مثل جنين وطولكرم ونابلس، والتي تقول المصادر العسكرية الإسرائيلية بأنها نجحت في تدمير بنية المقاومة الأساسية فيها، وقتل واعتقال المئات من عناصرها وكوادرها.
على أرض الواقع تبدو معظم الادّعاءات الإسرائيلية في غير مكانها، فلا المقاومة في غزة انهزمت، ولا انكسرت، ولا رفعت الرايات البيضاء، بل ورغم ما لحق بها من خسائر، وما يتعرّض له شعبها من حصار وتجويع وإبادة جماعية على مدار الساعة ما زالت تسطّر ملاحم بطولية في كلّ الساحات، وما حدث في رفح والشجاعية خلال الأسبوعين الماضيين خير دليل على ذلك.
في الضفة أيضاً، وعلى الرغم من كلّ الجرائم التي تُرتكب بحقّ المدنيين الفلسطينيين، وعمليات التهجير والتدمير الواسعة وغير المسبوقة، إلّا أنّ هجمات المقاومة ما زالت مستمرة وإن بوتيرة أقل نظراً للظروف الراهنة، وهي أي المقاومة تعمل على التكيّف مع المتغيّرات التي يفرضها الهجوم الإسرائيلي الواسع، وتحاول تحيّن الفرصة للانقضاض على قواته ومستوطنيه في معظم جغرافيا الضفة.
على صعيد الجبهة اللبنانية، والتي قدّم فيها حزب الله وفصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية تضحيات هائلة، وبذلوا كلّ ما يستطيعون من أجل إشغال “جيش” الاحتلال، ومنعه من الاستفراد بقطاع غزة، وقد نجحوا في ذلك أيّما نجاح حتى تمّ التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار على تلك الجبهة الحيوية والمهمّة.
بعد هذا الاتفاق الذي جاء في ظلّ ظروف معيّنة تحدّثنا عنها سابقاً، اعتقدت “دولة” الاحتلال أنها نجحت في فصل الجبهات، وأنها تمكّنت من تحييد ساحة مهمّة من ساحات محور المقاومة في الإقليم، وأن حزب الله تحديداً قد أصبح جزءاً من الماضي، إلّا أنّ حقيقة الأمر تقول عكس ذلك، إذ أنه على الرغم من الضربات المؤلمة التي تلقّتها المقاومة اللبنانية، وعلى الرغم من عدم ردّها خلال الفترة التي تلت وقف القتال على الخروقات الإسرائيلية المستمرة، إلا أنها لم تتخلّ عن دورها في مواجهة العدوان، والتصدّي لمخططاته ومؤامراته، وهي تعمل على استعادة عافيتها بشكل كامل وعلى كلّ الصعد العسكرية والسياسية، لتكون جاهزة في فترة مقبلة لخوض مواجهة قد تبدو مفروضة في ظل عدم التزام العدو باتفاق وقف إطلاق النار، وفشل الدولة اللبنانية والوسطاء الدوليّين في إرغامه على ذلك.
في سوريا يعتقد العدو بأنه قد تمكّن من إسقاط النظام السابق، والذي كان ركيزة أساسية من ركائز محور المقاومة، وكان يُعتبر خط إمداد رئيسياً للمقاومة في لبنان، وداعماً أساسياً للمقاومة في فلسطين أيضاً، ويُفاخر نتنياهو على الملأ بأنّ “إسرائيل” كانت لاعباً فاعلاً في إسقاط النظام، والذي تلاه من تدمير كامل لكلّ القدرات العسكرية السورية، في ظلّ صمت مُطبق من حكّام سوريا الجدد، الذين انشغلوا عن ذلك في إجراء مفاوضات مباشرة مع “دولة” الاحتلال، ومحاولة تقديم فروض الطاعة للإسرائيلي والأميركي، واعتقال قيادات المقاومة الفلسطينية خير دليل.
صحيح أنّ ما جرى يُعتبر إنجازاً كبيراً لـ “دولة” الاحتلال، وصحيح أنها تخلّصت من عدو تاريخي لطالما قضّ مضجعها، إلّا أنّ هذا الحال لا يبدو أنه سيكون مستداماً، إذ إنّ هناك الكثير من المعلومات والمؤشرات التي تشير إلى إمكانية تشكّل مقاومة سورية تقف في وجه أطماع الاحتلال، وتتصدّى لعدوانه الذي لا يتوقّف، وتعمل على طرد قواته من أرضها على الرغم من تنكّر السلطات الرسمية الجديدة لذلك.
أمّا في اليمن العزيز والأبي، والذي تحوّل إلى كابوس يلاحق الإسرائيليين كلّ صباح ومساء، وعلى الرغم من محاولة الاحتلال الادّعاء بأنه تمكّن من توجيه ضربات موجّهة لأنصار الله، والتي كانت عبارة عن هجمات جوية على أعيان مدنيّة، وعلى مطار صنعاء وبعض المصانع والمنشآت، إلّا أنّ الحقيقة التي يقرّ بها كلّ الخبراء والمحللين الصهاينة تقول إنه فشل فشلاً ذريعاً في وقف جبهة الإسناد اليمنية، وإنّ كلّ محاولاته في هذا الاتجاه قد سقطت تحت أقدام أبطال اليمن البواسل، وإنّ الدعم الأميركي والبريطاني لهذه الهجمات من خلال المشاركة المباشرة فيها لم تمنحها أيّ فرصة لتحقيق نجاح حتى لو كان نسبياً، وهو الأمر الذي تأكّد بعد رفع أميركا يدها من هذا الملف، وإعلانها التوصّل إلى وقف إطلاق نار متبادل مع أنصار الله يشمل سفنها ومصالحها في البحر الأحمر فقط، فيما تركت “إسرائيل” تواجه مصيرها لوحدها.
بخصوص إيران لا يبدو أنّ ادّعاء نتنياهو ووزير حربه الأحمق يسرائيل كاتس أنّها رُدعت، وتمّ ثنيها عن تقديم الدعم للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، وتقليص دعمها لحليفها الأبرز في لبنان حزب الله، وأنّ نفوذها الإقليمي قد تقلّص بشكل لافت، لا يبدو كلّ ذلك صحيحاً، فعلى الرغم من أنّ الساحة السورية كانت مهمة للغاية بالنسبة للإيرانيين، والخسائر التي تلقّاها حزب الله كانت قاسية وغير منتظرة، إلّا أنّ الدور الإيراني في المنطقة بما له من تأثير ملحوظ لم يتراجع، ولم يدخل في مرحلة من السبات، وهو ما دفع الولايات المتحدة الأميركية لبدء مرحلة جديدة من التفاوض مع إيران فيما يتعلّق بالاتفاق النووي بعد فشل سياسة التهديد والوعيد التي حاول ترامب استخدامها.
ختاماً يمكن لنا أن نقول، وعلى ضوء ما استعرضناه من مُعطيات يكاد يراها ويلمسها الجميع، بأنّ الشرق الأوسط مُقبل بالفعل على تحوّلات قد تغيّر وجهه وربما ملامحه، وقد تؤدّي في بعض مراحلها إلى بروز كيانات واختفاء أخرى، ولكن نحن موقنون بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ وجه هذا الشرق لن يكون إسرائيلياً، ولن يكون أميركياً، وسيبقى شرقاً عربياً إسلامياً خالصاً كما كان على الدوام.