من المؤسف حقا سواء في تاريخنا القديم والوسيط أو الحديث والمعاصر, أن ما عجزت عن تحقيقه الدول الاستعمارية بجيوشها في احتلال وتمزيق وحدة اليمن , استطاعت الوصول إليه عبر استخدام بعض القوى اليمنية .
شهدت اليمن خلال ثلاثة قرون من تاريخها القديم تدخل خارجي قادم من البحر الأحمر الأحباش وكلاء البيزنطيين , تسبب باحتلالها عسكريا وتمزيق وحدتها إلى كيانات سياسية متعددة , وفي التاريخ الحديث والمعاصر ومنذ عام 1744م وإلى اليوم , تسببت التدخلات السعودية المباشرة وغير المباشرة المدعومة من بريطانيا سابقا وامريكا حاليا من تقويض وحدة اليمن أرضا وإنسانا .
تاريخ حضاري
لقد ارتبط تاريخ اليمن القديم بحضارة عظيمة ذات شأن , وتمتلئ صفحات التاريخ القديم بالحديث عن حضارات ودول شتى مثل معين وسبأ وقتبان وحمير وقتبان وحضرموت وغيرها . ويمثل تأريخ دولة سبأ – والذي ورد ذكرها في القرآن الكريم – وحضارتها عمود التاريخ اليمني القديم .
وتمثل في نظر مؤرخي تلك الحقبة اليمنية القديمة : ( أول وأكبر وأهم تكوين سياسي , وإن الدول التي ذكرت معها أحيانا لم تكن سوى تكوينات سياسية كانت تدور في الغالب في فلكها ترتبط بها حينا , وتنفصل عنها حينا آخر مثل دولة معين وقتبان وحضرموت , أو تندمج فيها لتكون دولة واحدة مثل دولة حمير والتي لقبت ملوكها بملوك ” سبأ وذي ريدان ” . وكانت دولة سبأ في فترات حكمها تضم مناطق أخرى بل قد تشمل اليمن كله ) .
وقد ظلت سبأ تمثل الدولة الكبيرة والأم حتى القرن الخامس قبل الميلاد , حين خرجت عن سيطرتها مناطق عدة واستطاعت أت تكون دولا مستقلة .
( ودخلت هذه الفترة هذه الدول في منافسة مع سبأ ذاتها وشاركتها نفوذها السياسي والتجاري , بل إن تلك الدول لم تكن أقل شأنا من سبأ في أوج أزدهارها , وهذه الدول معين وقتبان وحضرموت …. دولة معين ظهرت في الجوف ” وهي العاصمة الدينية ” وتمكنت من السيطرة على طريق اللبان التجاري بمساندة حضرموت وقتبان .
وقد ظهرت تلك الدولة في القرن الخامس قبل الميلاد . أما دولة قتبان وعاصمتها ” تمنع ” فقد وصلت ؟إلى أوج ازدهارها في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد .
أما دولة ” حضرموت ” فكانت قد خرجت من قبل عن سيطرة السلطة المركزية السبئية في القرن الخامس قبل الميلاد …. وكان من أسباب قوة دولة حضرموت كونها تمتلك أرض اللبان وفي ” ظفار ” , وكانت عاصمتها ” شبوة ” …. أما دولة ” حمير ” آخر الدول اليمنية القديمة ظهورا فكان ذلك في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد , ولم تظهر كقوة كبيرة إلا في القرن الأول بعد الميلاد ) .
كيانات وحدوية
أن اليمن القديم عرف تطور كيانات وحدوية بداية من اتحاد أو تحالف القبائل الطوعي أو القسري إلى تكوين دول وممالك تعرف وجود سلطة مركزية قوية , وإن تلك الدول والممالك حين كانت في أوج قوتها كانت تمتد بسلطانها إلى كل جنوب الجزيرة العربية , وتمتد في بعض الأحيان إلى أجزاء من شمالها ووسطها .
ومع ضعفها كان مثل هذا النفوذ يتقلص مساحيا ومعنويا وعقيديا , وكان من أبرز مظاهر الضعف خروج دول وأماكن وحواضر كانت تتبع السلطة المركزية !.
ومع زيادة الضعف والوهن كونت تلك الحواضر دولا بذاتها استطاعت أن تنافس السلطة المركزية في مدينة ” مأرب ” عاصمة الدولة السبئية اليمنية .بالمقابل كان غياب السلطة المركزية أو ضعفها لأسباب داخلية أو خارجية يسمح بتفتت السلطة وخروج الحواضر عن السلطة المركزية وهيمنتها – أي الدولة الجديدة – الجزئية أو الكلية عن طرق التجارة المارة بها , والتحلل من الالتزامات لدولة المركز , بل ومنافستها في بعض الأحيان في أمور دينية ودنيوية معا .
ورغم ذلك كانت تلك الكيانات تتطلع لإعادة وحدة اليمن تحت سيطرتها لا ان تعلن انفصالها عن الوطن الأم ! .
الصراعات والتدخلات
إن عوامل الفرقة والتمزق – السياسي والعسكري فقط – في التاريخ اليمني قديما لم تكن عوامل داخلية فقط كصراعات الأبناء أو ذوي النفوذ في الأسر الحاكمة , فقد كانت هناك أسباب أخرى تدخل في باب العوامل الخارجية , التي ترتبط بأطماع كبرى غير يمنية , ولا تنتمي إلى الجزيرة العربية وجنوبها , مثل الأكسوميين دولة الأحباش في الطرف الآخر من البحر الأحمر , إلى جانب اقوى امبراطوريتان في التاريخ القديم الفرس والبيزنطيين .
وكان لكل من هؤلاء دوره في تفتيت السلطة المركزية اليمنية في عصر من العصور القديمة . مما أثار تمرد ومقاومة أبناء المناطق اليمنية على الوجود الخارجي , وهو ما ساهم في بعض الفترات في بناء أكثر الدول المركزية اليمنية هرة في العصور القديمة وهي ولة ” حمير ” المعروفة بدولة ” التبابعة ” في أحاديث الرواة والاخبارين العرب ومعروف أن القرآن الكريم ذكر قوم ” تبع ” هؤلاء .
لقد استغلت القوى الخارجية وبالذات الأكسوميين ومن خلفهم البيزنطيين الصراع الداخلي في اليمن على السلطة , فنظمت الحملات العسكرية المتتابعة . ومن أبرزها الحملة الرومانية في عان 24 ق. م , بقيادة ” اليوس جالوس ” , والتي تمكنت في بادئ الأمر من احتلال بعض المدن على السواحل اليمنية – والسواحل هي نقطة ضعف الأمن القومي اليمني إلى اليوم – إلا أن تلك الحملة فشلت وانهزمت أمام ضراوة مقاومة مأرب العاصمة السبئية آنذاك .
وبعد فشل تلك الحملة الرومانية الأولى أوكلت حماية المصالح الرومانية إلى دولة ” أكسوم ” الحبشية حليفة الإمبراطورية البيزنطية في التاريخ القديم .
والتي قامت بدورها بعدة حملات عسكرية على اليمن في القرون الميلادية ” الأولى والثانية والثالثة والرابعة والسادسة ” , ولم تستطع أن تحقق هدفها إلا في القرن السادس الميلادي وتحديدا في عام 525م , وهو التاريخ الذي يبدأ به احتلال الأحباش لليمن واسقاط الدولة اليمنية الموحدة دولة حمير آخر الممالك اليمنية القديمة .
حروب الثلاثمئة عام
خلال تلك الحملات الأكسومية التي دامت في مرحلتها الأولى ثلاثة قرون , والتي تعرف في التاريخ القديم ” بحروب الثلاثمئة عام ” , عرف اليمن القديم تحوله الأكبر وهو : توحيد الكيانات السياسية اليمنية في دولة واحدة وهي المعروفة بدولة التبابعة ” حمير ” .
وقد تحقق ذلك المشروع الوحدوي عبر ثلاث مراحل تاريخية :
– المرحلة الأولى : وقد استغرقت ثلاثة قرون كاملة دار فيها الصراع حول ترسيخ مشروع توحيد سبأ وذي ريدان في النصف الغربي من اليمن من نجران إلى عدن .
– المرحلة الثانية : وبدأت إثر توحيد الكيانين سبأ وحمير توحيدا ثابتا ونهائيا في آخر القرن الثالث الميلادي , وذلك حين بدأ الملك الحميري ” شمر يهرعش بن ياسر يهنعم ” عملية إدخال حضرموت ضمن مشروع وحدوي أوسع يضم إلى جانب سبأ وحمير الموحدتين كلا من حضرموت ويمنة التابعة لها , وقد استغرق المشروع ما يقرب من نصف قرن .
– المرحلة الثالثة : وهي المرحلة الأخيرة والتي تمت على يد الملك الحميري ” أبي كرب أسعد ” المعروف تاريخيا ” أسعد الكامل ” وهو أشهر ملوك التبابعة الحميريين , وهو الذي أكمل ترسيخ وحدة اليمن بإخضاع العشائر البدوية التي ظلت نافرة في الطود وتهامة .
اليمن الموحد
صارت اليمن الموحدة الدولة المركزية في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي وعرف رسميا وكما تدل على ذلك النقوش القديمة بدولة ” سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت واعرابهم في الجبال وتهامة ” .
أي أن الدولة أصبحت تضم مساحات واسعة , وتخضع جميعا لسلطة مركزية واحدة , والتي بدورها تمثل مجموعة هذه المناطق . وقد شهدت تلك الفترة أوج ازدهار الدولة المركزية اليمنية القديمة , حيث تذكر النقوش : ( أن الزراعة عادت للانتعاش , وإن الدولة المركزية أولت اهتماما كبيرا بترميم القنوات والمصارف المائية والسدود ) , وغيرها مما يدخل وفق التعبيرات الحديثة بالمشروعات العامة ,
كما امتد تأثيرها إلى مناطق عدة في شبة الجزيرة العربية , إذ قام في ظلها حكم أسرة كندة في نجد , وبفضل ما يسمى ب ” السلام الحميري ” الذي شمل شبة الجزيرة العربية كلها أمكن إحداث التقارب العربي في عموم الجزيرة العربية في كيان ومشروع وحدوي واحد لدولة وسلطة مركزية واحدة .
بذور الضعف
إن دولة التبابعة الدولة الحميرية حملت في داخلها عوامل ضعفها وانقسامها . ويرجع ذلك إلى تلك التقاليد التي عرفت عن طبيعة الحكم في اليمن القديم ذاته , فقد كانت تلك الدولة المركزية بمثابة دولة اتحادية يقوده أقاليمها الأقيال والأذواء – أي الأمراء والقادة المحليون – تحت قيادة ملك مركزي واحد يجمع في يده كل السلطات , وفي الوقت ذاته وبفعل الطبيعة الارستقراطية للحكام المحليين ووجود ما يمكن تسميته بالقوات الشعبية أو القبلية تحت قيادتهم , لم تلبث أن تفككت الدولة الحميرية الواحدة إلى عدة كيانات على أساس قبيلي .
أدت الطبيعة الارستقراطية للقيادات المحلية إلى دبت الخلافات والصراعات بين السلطة المركزية في ظفار والتي كان على رأسها الملك الحميري ” ذو نواس ” , والمناطق التي أعلنت تمردها على تلك السلطة المركزية , إلى جانب الأطماع الخارجية , كلها عوامل أدت إلى انهاء الدولة المركزية الأكثر شهرة في التاريخ اليمني القديم , وكان ذلك على يد الأكسوم في عام 525 م , والذين دام احتلالهم لليمن حتى 578م .
المقاومة اليمنية
على الرغم من قوات الأحباش المتدفقة على اليمن فقد استمر من بقي من الاقيال في مناضلتهم ومقاومتهم بعزائم ثابتة وبسالة عظيمة . وطوال الاحتلال الحبشي لليمن والذي استمر اكثر من نصف قرن وجدت المقاومة الشعبية اليمنية , وتدل بعض النقوش اليمنية حول تلك الفترة أن عدد من القبائل اليمنية وفي مناطق مختلفة شاركت في الانتفاضة ضد الاحتلال الحبشي الاكسومي كانتفاضة عام 542م ,
ومن تلك القبائل كندة وحضرموت وهمدان وخليل ومراد وذو يزين ومرثد وغيرهم . وقد حدثت ثورة قام بها ” يزيد بن كبشة ” أحد الرؤساء الأقيال الحميريين وكان أبرهة قد أنابه عنه على قبيلتي كندة وأودا , وانضم إلى يزيد أقيال حميريون .
ويظهر من النقش الذي خلفه أبرهة الحبشي أن ثورة : ( يزيد بن كبشة ” كانت ثورة عنيفة , وأنها شملت حضرموت وحريب وذو بن جدن وحبات عند صرواح , ولكنها فشلت ), وتغلب أبرهة الحبشي عليها بمساعدة قبائل يمانية ذكرها في النقش .
المصير الواحد
ولقد دلت تلك الانتفاضات على الروح الواحدة التي كانت تربط بين قبائل اليمن في مواجهتها للقوى الأجنبية , وهي الروح التي يمكن تسميتها ” بروح المصير الواحد والمشترك ,” والتي يمكن إليها ارجاع انهاء الاحتلال الأكسومي في عام 578م , على يد الملك ” سيف بن ذي يزن ” والذي واجه بعد فترة قليلة من حكمه محاولات دول الفرس القوة الاخرى للسيطرة على اليمن في عام 598م .
مرسوم وحدوي
وفي ظل ذلك الوضع العام الداخلي لليمن آنذاك , ظهر الإسلام في مكة المكرمة في مطلع القرن السابع الميلادي , ومنها انتشر إلى باقي أجزاء الجزيرة العربية ومن بينهما اليمن لتدخل اليمن واليمنيين في ظل الإسلام ,
في حين حافظت الدولة الإسلامية في المدينة المنورة على وحدة اليمن أرضا وإنسانا من خلال مرسوم عام الوفود السنة العاشرة للهجرة ” اتاكم أهل اليمن ” , او من خلال التقسيم الإداري لليمن إلى عدة مخاليف ضمت جميع مناطق اليمن من حضرموت شرقا والجند جنوبا وتهامة غربا مرورا بصنعاء , وحتى نجران وعسير وجيزان شمالا وصولا إلى منطقة “حلى بني يعقوب ” بالقرب من مكة المكرمة .
فمناطق عسير وجيزان وجرش وبيشة كانت من مناطق دولة اليمن المركزية دولة “سبأ ” منذ اقدم العصور كما ورد في العديد من النقوش المسندية القديمة .