المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    اليمن وأنصار الله: حين تُهزم إسرائيل في معركة الوعي والقوة

    في سياق إقليمي يموج بالتحولات الجيوسياسية، تبرز اليمن – بقيادة أنصار الله – كفاعل غير تقليدي يُعيد تشكيل موازين القوة في الشرق الأوسط. وبينما دأبت إسرائيل على فرض معادلة “الردع بالتفوق العسكري” مدعومة بدعم غربي مطلق وتخاذل رسمي عربي، تظهر اليمن كقوة صاعدة تكسر هذه المعادلة، لا بالبيانات، بل بضربات استراتيجية ومواقف ثابتة.

    إسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة

    منذ تأسيسها، لم تتوقف إسرائيل عن استخدام عقيدة الردع الشامل (Deterrence Doctrine) لترهيب خصومها، وهي عقيدة ترتكز على التفوق النوعي في التسليح وحرية المبادرة العسكرية. لكن العمليات اليمنية الأخيرة، وخاصة الهجمات الباليستية والمسيّرة التي استهدفت العمق الإسرائيلي والممرات البحرية الحيوية، وضعت تل أبيب أمام معادلة جديدة: هناك لاعب من خارج الطوق التقليدي للمواجهة، قادر على نقل المعركة خارج الجغرافيا الفلسطينية.

    “إسرائيل، التي اعتادت أن تختار زمان ومكان المعركة، باتت اليوم في موقع المتلقي للضربات”، كما يقول المحلل عادل شديد

    من الداخل المحاصر إلى الفاعل الإقليم.

    أنصار الله – الذين ولدوا من رحم حصار وعدوان دامٍ – استطاعوا بناء نموذج غير متماثل (Asymmetric Warfare Model)، يقوم على المرونة التكتيكية والاستنزاف الاستراتيجي. فبعد سنوات من الحرب، خرجوا من موقع الدفاع إلى حالة الهجوم الاستباقي، محققين بذلك أحد شروط الردع المستدام: القدرة على التأثير خارج حدود الدولة.

    وهذا التحول النوعي ترافق مع تطور لافت في القدرات التقنية للصواريخ والطائرات دون طيار، ما أعاد تعريف مفهوم “القوة اليمنية” في المعجم العسكري الإقليمي.

    صعود اليمن يخلخل توازنات المنطقة

    ما يحدث ليس مجرد دعم لحماس أو رد على محرقة غزة، بل هو – في حقيقته – إعادة رسم للمعادلات الجيوستراتيجية في المنطقة. فاليمن، الموصوف سابقًا بأنه “خاصرة رخوة” في الأمن الخليجي، أصبح مركز ضغط جيوسياسي يمتلك أدوات الحرب الهجينة (Hybrid Warfare)، ويؤثر على توازنات البحر الأحمر، وعلى أمن الطاقة العالمية، بل وعلى القرارات السياسية في عواصم غربية كواشنطن ولندن.

    صدمة الوعي العربي والإسلامي

    لعل الإنجاز الأكبر الذي تحقق لا يكمن فقط في المعركة العسكرية، بل في المعركة الرمزية والنفسية. لقد هدم اليمن سردية الهزيمة التي جرى هندستها على مدى عقود، وروّج لها التطبيع العربي والإعلام الموجّه، والتي مفادها أن إسرائيل قوة لا تُهزم، وأن المقاومة خيار عبثي.

    “اليمن هو الدولة العربية الوحيدة التي لا تهادن في ملف فلسطين ولا تساوم على الدماء، وهذا يكفيه شرفًا وموقعًا في ضمير الأمة”،

    كما قال المحلل السياسي اللبناني ناصر قنديل.

    البُعد الاستراتيجي لمحور المقاومة

    تندرج العمليات اليمنية ضمن رؤية أوسع لمحور المقاومة، الذي بات اليوم يشتبك مع إسرائيل على جبهات متعددة ومتزامنة: من الجنوب اللبناني، إلى غزة، إلى العراق، إلى اليمن. وتُظهر اليمن اليوم قدرة على العمل ضمن هذا المحور بأسلوب القيادة الذاتية المنسقة (Decentralized Command) – أي بدون حاجة إلى أوامر مباشرة – مما يزيد من مرونة الردع ويشتت تركيز العدو.

    كما أن هذا التناغم العسكري والسياسي بين قوى المقاومة يكرّس الردع التراكمي (Cumulative Deterrence)، وهو مفهوم يشير إلى أن قدرة المقاومة لا تتوقف عند ضربة واحدة، بل تتراكم بتعدد الجبهات وتنوع الأدوات.

    خاتمة: اليمن يكتب معادلة جديدة

    بينما كانت الأنظمة العربية تتسابق نحو التبعية السياسية والتطبيع الأمني، ظهر اليمن كقوة تعلن بوضوح أن مشروع الهيمنة الصهيوني ليس قدرًا. فبفضل الإرادة، والقدرة، والجرأة، تمكن اليمن من إعادة تعريف “موازين الردع”، وفرض نفسه كـ فاعل مستقل في الجغرافيا السياسية، وكمصدر إلهام معنوي لشعوب فقدت الثقة بجيوشها وأنظمتها.

    “إنها ليست مجرد صواريخ، بل رسائل استراتيجية تقول لإسرائيل: لم تعد وحدكِ تتحكمين في قواعد الاشتباك”

    اليمن اليوم لا يدافع فقط عن سيادته، بل يقاتل أيضًا نيابة عن ضمير أمة. وفي زمن الهزائم الرسمية، أصبح منارة للكرامة، وراية لمشروع المقاومة. إنها لحظة تحول تُعيد للأمة بوصلتها: أن التحرر لا يُوهب، بل يُنتزع بالقوة.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    د/ طلال منصور بن حبتور

    spot_imgspot_img