الرئيسية زوايا وآراء خارج المألوف: خسارة المقاومة في الأمن… وتفوقها في الميدان

خارج المألوف: خسارة المقاومة في الأمن… وتفوقها في الميدان

منذ اللحظة الأولى لتسريب الشائعات عن “اختراق أمني كبير” طال بنية حزب الله، انطلقت الأقلام ـ بقصد أو دون قصد ـ لتبني رواية العدو. روايةٌ أراد العدو من خلالها تعويض فشله الميداني بانتصار معنوي ونفسي. لكن السؤال الجوهري، الذي يجب أن يُطرح بموضوعية: هل ما جرى يمكن فعلاً اعتباره فشلاً أمنياً لحزب الله؟ وإن كان كذلك، كيف تمكّنت المقاومة من امتصاص الضربة وتحويلها إلى نقطة قوة؟

أولًا: بين السردية الصهيونية والتلقف العربي

لا يمكن تجاهل ما رُوِّج في بعض وسائل الإعلام العربية والدولية، من مزاعم تتحدث عن اختراق استخباري غير مسبوق داخل صفوف الحزب، بل حتى قرب دوائر القيادة العليا. الروايات تسابقت على “التفاصيل” بلا مصادر: “قائد كبير للحزب يعمل مع الموساد”، و”عميل إيراني رفيع زار السيد”، و”أجهزة تنصّت زُرعت في مجالس القرار”. كل ذلك قُدّم في قالب شبه درامي، تماهت فيه الصحافة مع السينما التجسسية.

واللافت أن هذه الروايات، رغم نفي الحزب القاطع لها، لم تتوقف عن الانتشار. بل جرى توظيفها في حملات منظمة تدعو إلى نزع سلاح المقاومة، وتُصوّر حزب الله كجسد مثقوب مخترق، لم يعد قادرًا على أداء دوره الدفاعي.

لكن الميدان، كعادته، كان له كلام آخر.

ثانيًا: ضربة أمنية… لكن لمَن؟

نعم، من غير المجدي التعامل بعقلية الإنكار مع أي ثغرة أمنية، مهما كان حجمها. فكل تنظيم، مهما بلغ من الصرامة، معرّض للاختراق أو الاستهداف التقني، خاصة في زمن الأقمار الصناعية، والذكاء الاصطناعي، والطائرات الشبحية. وقد أظهرت بعض العمليات الإسرائيلية التي طالت كوادر ميدانيين أن هناك نوعًا من التتبع المتقدم، ربما عبر تقنيات متطورة أكثر من اختراق بشري مباشر.

لكن يجب التمييز هنا: هل الاختراق تقني ظرفي؟ أم اختراق بنيوي طويل المدى؟ هل تم فعلاً عبر عميل في الداخل؟ أم عبر خرق موجات الاتصالات أو تسريب من طرف ثالث؟ هذه الأسئلة تُركت عمدًا دون أجوبة واضحة من الحزب، في إطار الحرب النفسية المضادة التي يعتمدها.

وحتى لو افترضنا حصول خرق أمني ما، فإن الرد الحقيقي لم يكن في البيانات، بل في الميدان.

ثالثًا: الانهيار المتوقع… الذي لم يحدث

في أي جيش نظامي، يُعدّ فقدان قائد بحجم الأمين العام أو كبار الضباط ضربة قاتلة. فكيف بتنظيم مقاوم غير تقليدي؟ إسرائيل راهنت على أن غياب القيادة سيسبب شللاً عامًا، خاصة أن اللحظة الأمنية تزامنت مع تحرك بري هجومي من جيش الاحتلال على الجبهة الجنوبية.

لكن المفاجأة الكبرى ـ التي صدمت مراكز القرار الأمني والعسكري في تل أبيب ـ تمثلت في أن وحدات المقاومة لم تتأثر. لم تترنح، لم تتراجع، لم تظهر إرباكًا في القرار أو في الأداء. بالعكس، كانت عملياتها أكثر تنسيقًا، وأكثر فاعلية.

بل إن إحدى وحدات النخبة الصهيونية وجدت نفسها في كمين محكم، بعد 48 ساعة فقط من الغارة التي استهدفت القادة، ما يؤكد أن الحزب لم يفقد السيطرة، وأن البنية الميدانية تعمل بأسلوب لا مركزي شديد الكفاءة.

رابعًا: العقيدة مقابل التقنية

جزء كبير من الرهان الإسرائيلي فشل لأن التقدير الاستخباري لديهم بُني على فرضيات خاطئة. فهم اعتادوا التعامل مع تنظيمات تقليدية تنهار مع رأسها، لكنهم لم يضعوا في الحسبان أن حزب الله بنية عقائدية قبل أن يكون هيكلًا عسكريًا. المقاتل في المقاومة ليس مجرد عنصر يتلقى الأوامر، بل هو مشروع استشهاد بحدّ ذاته. وهذا يغيّر المعادلة جذريًا.

الاختراق التقني ـ إن حصل ـ قد يكشف إحداثيات. لكنه لا يكشف العقيدة.

والروح القتالية لا تُخترق.

خامسًا: من الغموض الردعي إلى الرسائل المفتوحة

منذ 2006، اعتمد حزب الله سياسة الغموض البنّاء في ملف قدراته العسكرية. لم يعلن يومًا عن عدد صواريخه، ولا عن نوع المسيرات التي يملكها، ولا عن طبيعة غرف العمليات. هذه السياسة نجحت في ترسيخ معادلة “ما لا يُقال أعظم مما يُقال”، وهي المعادلة التي تُبقي العدو في حالة شك دائم.

اليوم، بعد محاولة الاختراق الأمني، لم يتغير شيء. لا أحد يعلم إن كان الحزب قد فقد مخزونًا مهمًا، أو أنه ضاعف قدراته سرًا. كل ما يُعرف هو أن “الرد قادم”… ولكن متى؟ وكيف؟ وبماذا؟

إسرائيل تدرك جيدًا أن ما فشلت في كشفه استخباراتيًا، لن تقدر عليه عسكريًا.

سادسًا: الحصار الإقليمي… والاحتواء الداخلي

بالتزامن مع الحملة الصهيونية، جاءت الضغوط الأمريكية والخليجية في سياق متكامل. مقاطعة مالية، محاولات لفرض عقوبات جديدة، تحريض داخلي على المقاومة، وتسويق روايات الاختراق إعلاميًا في لبنان والمنطقة.

لكن المفارقة أن هذا الضغط لم يُضعف البيئة الحاضنة. بل العكس تمامًا، ولأسباب نفسية واجتماعية وأيديولوجية، التفت القاعدة الشعبية حول المقاومة أكثر. فالهجوم المركّز أعاد التذكير بمنطق “الاستهداف الخارجي”، وفعّل الغرائز الدفاعية، خاصة في البيئة الجنوبية التي خبرت طعم الاحتلال.

سابعًا: مراجعة داخلية لا انهيار

أقوى ما فعله الحزب في هذه اللحظة، أنه لم يذهب إلى العلن بتبريرات أو انفعالات. بل مارس “المراجعة الصامتة”، أي إعادة الهيكلة الأمنية الداخلية، دون ضجيج. هذا النمط من الترميم بعيدًا عن الإعلام هو ما جعل كثيرًا من الجهات عاجزة عن تقدير وضع الحزب الحقيقي.

وقد تكون المفاجآت القادمة في الميدان هي أفضل رد على كل ما كُتب وقيل.

ثامنًا: الدرس الأهم… من يضحك أخيرًا

المقاومة، في لحظات كهذه، تُظهر جوهرها الحقيقي: ليست مجموعة عسكرية فقط، بل مشروع إيماني وشعبي وأمني وعقائدي متكامل. ولذا، فإن خسارة بعض القادة ليست خسارة رأس، بل دماء جديدة تُسكب على طريق النصر. وهي، كما أثبتت الأيام، دماء تولّد جولات جديدة، ورؤية أكثر صلابة.

إن إسرائيل، التي هلّلت لاختراق افتراضي، تعرف في أعماقها أن ما تخشاه فعلاً ليس الضربة الأمنية… بل اللحظة التي تليها. فالمقاومة لا تموت بالرصاص، بل تحيا به. وهي حين تنهض من بين ركام الاغتيالات، تعود أشدّ بأسًا، وأكثر تنظيمًا، وأقرب إلى النصر.

ما جرى كان اختبارًا حقيقيًا لحزب الله، ليس على مستوى الردّ العسكري فقط، بل على مستوى الوعي والبنية. وبينما فرح الإعلام المعادي باختراق أمني، كانت المقاومة تحفر أنفاقها في الوعي الجمعي من جديد، وتثبت أن المعركة ليست فقط على الحدود، بل أيضًا على العقول والقلوب.

ومن خسر جولة الاستخبارات، قد يكون هو من كشف أوراقه. أما من خسر قادة، فربما كسب دمًا جديدًا للمعركة الكبرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كيان الأسدي

لا يوجد تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

Exit mobile version