في ضوء التصعيد القائم بين إيران والكيان الصهيوني تتكثف المؤشرات على أن المواجهة لم تعد محصورة في بعدها العسكري أو الاستخباري، بل باتت معركة وجود بالنسبة لـ”إسرائيل” بحسب ما أشار إليه الدكتور محمود خلوف المختص في الشأن الإسرائيلي. ففي مقابلة مع قناة القاهرة الإخبارية استعرض خلوف أبرز ملامح الخطاب الداخلي الإسرائيلي، مشيرًا إلى ما ورد في افتتاحية صحيفة هآرتس بتاريخ 14 يونيو والتي نقلت عن مسؤولين في المؤسسة السياسية والعسكرية أن “إسرائيل لا تملك رفاهية الخسارة في معركتها مع إيران”.
الرهان الإسرائيلي على الحسم كما يتضح لا يقتصر على تحييد “التهديد الإيراني” بل يتعداه إلى ما هو أبعد: إنهاء ما تسميه تل أبيب “شبكة المحور”، والتي تشمل فصائل المقاومة في غزة ولبنان واليمن.
لكن الهدف الاستراتيجي الأهم وفقًا للخطاب الإسرائيلي هو التخلص من آخر العقبات التي تحول دون فرض الهيمنة الكاملة على الإقليم العربي وترسيخ موقع “إسرائيل” كقوة فوق دولية تتحكم بمفاصل القرار العربي وتحتكر وحدها قواعد الاشتباك والأمن.
يضيف الدكتور خلوف أن نجاح “إسرائيل” في كسر المعادلة الإيرانية لن يكون انتصارًا عسكريًا فحسب بل سيشكل زلزالًا جيوسياسيًا يعيد تشكيل الشرق الأوسط بأكمله. إذ ترى تل أبيب أن الحسم ضد طهران سيمهّد الطريق لتفكيك ما تبقى من توازنات تقليدية وعلى رأسها التوازن المصري. وقد أشار خلوف إلى أن أجهزة الأمن والمخابرات المصرية تُعد من أبرز الهواجس الإسرائيلية نظرًا لدورها التاريخي في دعم القضية الفلسطينية وما تمثّله من قدرة كامنة على تغيير قواعد اللعبة في حال تحررت من القيود السياسية والاقتصادية الراهنة.
وبعيدًا عن الأقطار العربية المجاورة لا تُخفي النخبة الصهيونية قلقها المتنامي من المشروع النووي الباكستاني رغم بُعد إسلام آباد جغرافيًا عن فلسطين المحتلة. ففي أكثر من تقرير إعلامي واستخباري وصفت تل أبيب البرنامج النووي الباكستاني بأنه “عبث بالأمن القومي الإسرائيلي”، مشيرة إلى استحالة قبولها بوجود أي قدرة ردعية عسكرية في العالم الإسلامي حتى وإن لم تكن موجهة مباشرة إليها.
إن ما تكشفه تصريحات خلوف وتحليلات الصحافة العبرية ليس جديدًا في جوهره لكنه يسلّط الضوء مجددًا على عقيدة “إسرائيل” الأمنية القائمة على اعتبار العرب بجميع توجهاتهم خطرًا وجوديًا حتى في ظل ما تعتبره تل أبيب خضوعًا شبه تام من غالبية الأنظمة العربية. هذا الخضوع، بحسب العقل الإسرائيلي لا يكفي بل المطلوب هو تفكيك بُنى الدول العربية الكبرى وإنهاء أي إمكانية لنشوء مشروع وطني أو إقليمي منافس ولو كان غير معادٍ بالضرورة.
في هذا السياق، تحضر مصر كنموذج مقلق لـ”إسرائيل” إذ إن ما تعانيه الدولة المصرية اليوم من أزمات سياسية واقتصادية يجعلها بنظر المراكز البحثية الإسرائيلية على حافة التفكك. وهو سيناريو مألوف لدى صناع القرار في تل أبيب وسبق أن تم اختباره في سورية حين تحولت الدولة المركزية إلى كيان متشظٍّ بفعل الحرب، ومخترق من قوى دولية وإقليمية.
أما السودان الجار الجنوبي لمصر فلا يبدو بعيدًا عن هذا المشهد إذ بات منذ اندلاع النزاع الداخلي نموذجًا لدولة سقطت في معركة مفتوحة بلا أهداف واضحة ولا أفق زمني. وقد أضحت عودة الاستقرار هناك ضربًا من الوهم في ظل انعدام الإرادة الدولية وتكريس واقع التجزئة والانقسام.
وبالانتقال إلى الخليج العربي فإن الخريطة التي نشرتها بعض الحسابات الإسرائيلية الرسمية في يناير الماضي والتي تزعم قيام “إسرائيل الكبرى” على أنقاض عدد من الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية لم تكن مجرد مادة دعائية عابرة. فبرغم الإدانة السعودية الرسمية لتلك المزاعم إلا أن تل أبيب تراهن على أن غياب الرد العملي والاكتفاء بالمواقف اللفظية يعزز مناخ التهيئة لتنفيذ المشروع الصهيوني التوسعي عندما تتهيأ الظروف.
وليس هذا الطموح الإسرائيلي وليد اللحظة. ففي كتاب صادر عن معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب بعنوان “مخطط استراتيجي للساحة الإسرائيلية-الفلسطينية”، يطرح المؤلفون تصورًا لما بعد الاعتراف العربي بـ”إسرائيل”، معتبرين أن المرحلة القادمة يجب أن تتجه نحو “فرض واقع توسعي بالقوة” لا سيما بعد أن قدّمت السعودية، في بداية الألفية مبادرة السلام العربية التي وفرت من وجهة النظر الصهيونية غطاءً دبلوماسيًا أوليًا للمضي قُدمًا نحو “إسرائيل” الكبرى خاصة بعدما تهيأت البيئة السياسية وسقطت كثير من الأنظمة المعارضة تحت يافطة “الربيع العربي”.
إن موجة الربيع العربي، بما حملته من طموحات مشروعة قد تم توظيفها في رأي بعض المراقبين لتقويض الأنظمة التي كانت تشكل عائقًا أمام تمدد النفوذ الصهيوني. وجرى إنتاج طبقة سياسية جديدة أكثر استعدادًا للتطبيع العلني وأقل حساسية تجاه الموروث القومي والممانع الذي كان يعتبر التعامل مع “إسرائيل” خطًا أحمر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد محسن الجوهري