المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    الحرب على إيران: معادلات توحش للتحكّم

    الهدف الإستراتيجي الإسرائيلي - الأميركي، هو إسقاط النظام الإسلامي...

    إيران نحو عتبة استراتيجيّة جديدة ومركّبة

    نجح الكيان الصهيونيّ فجر الجمعة 13 حزيران 2025م باغتيال...

    إنهاء الحرب بيد طهران.. الاحتلال في مأزق والرهانات الأميركية تتهاوى

    بالنظر إلى السياق الميداني والإعلامي للعدوان المتبادل بين الجمهورية...

    ماذا لو أغلقت إيران مضيق هرمز؟

    أكّد عضو في لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني،...

    عراقجي: كان من الضروري إجراء مشاورات وثيقة مع روسيا

    أكد وزير خارجية ايران عباس عراقجي أنه "كان من...

    القضية الفلسطينية بين غيبية الإيمان وواقعية البقاء

    لا بدّ للنخب الفاعلة في الميدان أن تزيد من رصيد الوعي للشارع الغزي خصوصاً والفلسطيني عموماً على شحذ الهمم والنضال من أجل التحرير بالسبل كافة.

    يعيش الواقع الفلسطيني ولا سيما في قطاع غزة على وقع انقسام فكريّ حادّ بين جماعتين، ولا يمكن وصف أحدهما بالصواب المطلق ولا الآخر بالخطأ القاطع، لأنّ كلّيهما نابع من واقع مؤلم يتأرجح بين الإيمان الثوري بالغيب من جهة، والبراغماتية القاسية من جهة أخرى.

    الفسطاط الأول وهو الأكثر تمسّكاً بالماورائيات والنصوص القرآنية وفرضيّة لعنة العقد الثامن، وينتمي هذا الفريق إلى الحركات الإسلامية وبعض قوى اليسار الفلسطيني، في توافق غريب ولكنه مفهوم في سياق الاحتلال والاستعمار.. إذ ترى هذه الفئة في المقاومة المسلحة، مهما بلغ الثمن، خياراً لا رجعة عنه، فهي تستند في منطلقاتها إلى الوعد الإلهي والتاريخي بأنّ زوال الاحتلال ليس إلا مسألة وقت، وأنّ كلّ شهيد على طريق القدس هو بذرة حرية. يعتقد هؤلاء أنّ “دولة” الاحتلال قد دخلت مرحلة التهاوي والسقوط، مستشهدين بأزمات بنيوية: سياسية، أمنية، اقتصادية، وديموغرافية.

    والدلائل التي يستند إليها هذا الفريق كثيرة، أهمّها أحداث السابع من أكتوبر 2023، حين تمكّنت المقاومة من إحداث خلل أمني صاعق في منظومة الردع الإسرائيلية، ممّا تسبّب في ضربة معنوية هائلة للمجتمع الإسرائيلي ومؤسساته، كما أنّ التراجع الاقتصادي المتزايد، خاصة في قطاعات السياحة والاستثمار والصناعة في المستوطنات المحتلة، مما أضعف قدرة “إسرائيل” على الصمود طويلاً في وجه حرب استنزاف يومية تنفّذها فصائل المقاومة بعمليات كرّ وفرّ على نمط حروب العصابات وليس على شكل جيوش نظامية، وهو ما يمكن ملاحظته مؤخراً بعد اجتياح معظم مناطق القطاع، خصوصاً في الشجاعية وجباليا ومدينة خان يونس.

    وفي هذا السياق، يلاحظ أصحاب هذا التيار أنّ حزب الله يعيد تموضع قوات الرضوان وبقية وحدات الحزب عسكرياً واستراتيجياً في جنوب لبنان، بينما تحاول فصائل المقاومة النهوض وتنفيذ هجمات في الضفة الغربية، وإن لم تكن بالقدر المطلوب، نتيجة التنسيق الأمني والتعاون الكبير بين أجهزة السلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال؛ بالتوازي مع ازدياد عزلة “دولة” الاحتلال الدولية، وارتفاع وتيرة المقاطعة الأكاديمية والثقافية، خصوصاً في جامعات أميركا وبريطانيا وأستراليا؛ فهذا التيار يراهن كذلك على التحوّلات الدولية الكبرى، مثل تراجع هيمنة القطب الواحد، وصعود الصين وروسيا، وانشغال الولايات المتحدة بصراعاتها الداخلية، ولا سيما في ولاياتي كاليفورنيا وتكساس التي تصاعدت فيهما الأصوات الانفصالية مؤخّراً، بالإضافة إلى الحرب على إيران، وقوة الصواريخ والمسيّرات الإيرانية، وربما المفاجآت الأخرى اللاحقة، خصوصاً بعد الدخول الأميركي المباشر في الحرب على إيران.

    في المقابل، يرفع التيار الآخر، الأكثر براغماتية وارتباطاً بواقع المعاناة اليومية، راية التشكيك في جدوى العمل المسلّح في ظلّ معادلات القوة المختلّة، يرى هذا التيار أنّ التجربة السياسية لحركة حماس منذ فوزها في انتخابات عام 2006 وصولاً إلى حرب الإبادة الحالية أثبتت أنّ حكم غزة تحت الحصار ضرب من المستحيل. إذ إنّ الحصار والتجويع، إلى جانب التواطؤ الإقليمي والدولي، أنتج جريمة إنسانية خانقة. ومنذ معركة طوفان الأقصى، دمّرت البنية التحتية في قطاع غزة بالكامل، وتفكّك جزء كبير من النسيج المجتمعي، وظهرت سلوكيات لم تكن مألوفة من قبل، كالسلب والنهب وانهيار القانون، خصوصاً مع سياسة التجويع الجديدة تحت اسم شركة المساعدات الأميركية.

    ويحذّر هذا الفريق من مغبّة الاستمرار في المسار ذاته، ويطالبون بإعادة تقييم المشروع الوطني الفلسطيني، مع التركيز على الدبلوماسية الدولية والنضال الحقوقي وتفعيل الأدوات القانونية في المحاكم الدولية. ويؤمنون أنّ “دولة” الاحتلال، بدعم الغرب الرأسمالي، لا تزال قوية وقادرة على إعادة ترميم نفسها، في الوقت الذي لا تزال فيه البيئة العربية هشّة ومنقسمة وعاجزة عن تقديم الدعم اللازم لصمود غزة.

    لكن الخلاف بين الفريقين رغم عمقه لا يعكس ضعفاً بنيوياً في الوعي الجمعي الفلسطيني، بل ربما يكون أحد تجلّيات الحيوية المجتمعية؛ فكلّ أمّة تعيش تحت الاحتلال تمرّ بمرحلة مخاض فكري وسياسي تتباين فيها الرؤى. كما أنّ هذا التباين قد يكون ضرورياً للوصول إلى حالة نضج سياسي، تؤسس لحوار حقيقي وتعدّد المقاربات لا على التخوين أو التناحر، تقودها منظمة التحرير الفلسطينية.

    إنّ ما يجمع الغزيين اليوم على اختلاف مشاربهم أكثر ممّا يفرّقهم، فمعظم من يطالبون بوقف المقاومة المسلحة لا يفعلون ذلك بدافع التخاذل أو الخيانة، بل من باب الخوف على ما تبقّى من الإنسان الفلسطيني في غزة. ومن هنا، تكمن المسؤولية الكبرى على عاتق النخب الفكرية والسياسية في البحث عن أرضية مشتركة، تجمع بين الصمود والواقعية وبين المقاومة والتجديد.

    قد لا يكون المستقبل واضحاً لدى البعض في ظلّ المعادلات الإقليمية والدولية المتحرّكة، لكن من المؤكّد أنّ الشرق الأوسط في طريقه إلى تحوّلات جذرية لصالح القضية الفلسطينية؛ فالحرب الإسرائيلية الأميركية على إيران، وظهور تحالفات دولية جديدة، وانكشاف ازدواجية الخطاب الغربي تجاه حقوق الإنسان، كلّها مؤشّرات على أنّ التغيير آتٍ، وما بين غيبية الإيمان وواقعية البقاء، يبقى الشعب الفلسطيني شاهداً ومشاركاً في لحظة تاريخية تتطلّب أقصى درجات الوعي والمرونة، لا الانقسام والمزايدة.

    وختاماً، لا بدّ للنخب الفاعلة في الميدان أن تزيد من رصيد الوعي للشارع الغزي خصوصاً والفلسطيني عموماً على شحذ الهمم والنضال من أجل التحرير بالسبل كافة، الدبلوماسية والسياسية والعسكرية، وصولاً إلى التحرير لكامل تراب فلسطين.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    spot_imgspot_img