بالنظر إلى السياق الميداني والإعلامي للعدوان المتبادل بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الصهيوني، تبرز الموجة الأخيرة من الرد الصاروخي الإيراني كمحطة نوعية في تطور قواعد الاشتباك وتبدّل موازين الردع. فقد وصفت وسائل الإعلام العبرية، إلى جانب قادة صهاينة، ما جرى خلال الساعات الماضية بأنه “أطول عملية قصف متوالية منذ بداية الحرب على إيران”، حيث دوّت صفارات الإنذار في أربع رشقات متتالية على امتداد فلسطين المحتلة، وهي سابقة تعبّر عن خلل حقيقي في منظومات الإنذار والدفاع الصهيونية.
المصادر العبرية قدّرت عدد الصواريخ بما بين 10 و15 صاروخًا ضمن كل دفعة، ما يؤكد أن إيران لم تعد تعتمد سياسة الضربات الرمزية، بل انتقلت إلى تكتيك “التشبع بالنار”، في إطار موجات متكررة، تستهدف إرباك الجبهة الداخلية للعدو وإنهاك دفاعاته.
أما جغرافيًا، فقد توزّعت الصواريخ على مناطق مختلفة أبرزها أسدود، حيث تضررت محطة توليد الكهرباء، ما أدى إلى انقطاع التيار عن نحو 8000 منزل، بحسب وزير الطاقة الصهيوني. هذا المشهد يؤشر إلى دخول العمق الحيوي الإسرائيلي في دائرة الاستهداف المباشر، ويطرح تساؤلات حول قدرة الجبهة الداخلية على الصمود تحت الضغط المستمر.
الضربة التي طالت مدينة صفد المحتلة، وتحديدًا هدفًا لا تزال طبيعته محاطة بالسرية التامة، تؤكد أن إيران باتت تملك بنك أهداف نوعيًّا، وأنها قادرة على إصابة مواقع تُعد حساسة جدًا، قد تكون عسكرية أو استخبارية، الأمر الذي دفع العدو إلى فرض طوق إعلامي وأمني صارم حول الموقع.
تأثير هذه الهجمات لم يقتصر على الخسائر المادية فقط، بل شمل المجال الجوي الصهيوني الذي أُجبر على الإغلاق لأكثر من 40 دقيقة، ما عرقل حركة الملاحة الجوية وأبقى طائرات شركة “العال” في الجو حتى عودة فتح المجال. هذه الإرباكات، بحسب الصحافي الصهيوني يوسي ميلمان، تؤكد أن “قدرة إيران الصاروخية لا تزال فعّالة وعلى ما يرام”، وأن الكيان دخل في “حرب استنزاف مفتوحة”، تهدد أمنه واستقراره الداخلي على المدى الطويل.
الانعكاسات الاقتصادية لهذا التصعيد لم تتأخر، فقد شهدت البورصة الصهيونية تراجعًا لافتًا في مؤشرات القطاعات المالية والعقارية، في وقت تسعى فيه تل أبيب، وفق تقرير القناة 13 العبرية نقلاً عن وول ستريت جورنال، إلى “تسويق” هجوم ترامب على إيران بوصفه “نصرًا سياسيًا” داخليًا، في ظل عجزها عن الحسم العسكري.
لكن الواقع – كما تكشفه التسريبات العبرية والغربية – أكثر تعقيدًا؛ فالقرار بوقف الحرب لم يعد بيد تل أبيب أو واشنطن، بل بات مرتبطًا بإرادة طهران، وهو ما يشير إلى تبدّل جذري في قواعد الاشتباك. رئيس وزراء الاحتلال السابق، إيهود أولمرت، عبّر عن هذا المأزق بوضوح حين اتهم نتنياهو بإشعال حرب لصرف الأنظار عن إخفاقاته، مؤكدًا أن “إيران دولة لا يمكن هزيمتها”، وأن نتنياهو “بارع في إشعال الحروب وفاشل في إنهائها”.
من جانبه، دعا الجنرال السابق يئير غولان، زعيم حزب الديمقراطيين، إلى التفاوض على اتفاق شامل، معتبرًا أن الاستمرار في هذه الحرب لن يخدم مصالح الكيان، بل سيؤدي إلى تعميق أزماته على المستويين العسكري والاقتصادي.
في الميدان، تتوالى الأضرار في البنى التحتية، وشبكات الكهرباء، والمرافق الحيوية، فضلاً عن تكتّم الاحتلال على حجم خسائره العسكرية، التي يُعتقد بأنها جسيمة. الموانئ كميناء حيفا وإيلات تعطلت، فيما رئيس بلدية إيلات دعا صراحة لإنهاء الحرب، خاصة أن اليمن منع وصول السفن إلى الميناء منذ بدء التصعيد، ما يعني شللاً في إحدى أهم نقاط التواصل البحري للكيان.
في العمق الداخلي، بدت ملامح التفكك واضحة: نواب في الكنيست فرّوا إلى أماكن آمنة فور انطلاق صفارات الإنذار، بينما احتمى المستوطنون في الأنفاق وتحت الجسور. حالة الإرباك هذه دفعت فرنسا إلى إعلان استعدادها لإجلاء نحو 250 ألف صهيوني من مزدوجي الجنسية.
أما حركة النزوح الداخلي، فهي تتوسع يومًا بعد يوم، إذ تؤكد المشاهد المصوّرة مغادرة عشرات الآلاف من المستوطنين لمنازلهم باتجاه مستوطنات الضفة الغربية، التي لا تزال الأقل استهدافًا.
في المحصلة، يظهر أن المعركة انتقلت من كونها مواجهة عسكرية محدودة إلى صراع استنزاف استراتيجي مفتوح، باتت فيه اليد العليا – مؤقتًا – لصالح طهران، التي تُمسك الآن بمفاتيح إنهاء التصعيد أو توسيعه، بينما تجد تل أبيب وواشنطن نفسيهما في مأزق عنوانه: كيف نُنهي حربًا بدأناها ولم نعد نملك مفاتيحها؟