اقتربنا من عامين وشعبنا الفلسطيني يتعرض لحرب إبادة غير مسبوقة، يقودها الاحتلال الإسرائيلي بلا رحمة، طالت الأطفال والنساء وبنية المجتمع ومقومات الحياة. آلاف البيوت دمرت على رؤوس ساكنيها، مئات الآلاف نزحوا، وأكثر من 80,000 شهيد ارتقوا في مشهد يتجاوز الكارثة، ويؤسس لواحدة من أكثر الجرائم التاريخية بشاعة.
لكن مقابل هذا العدوان، نهضت مقاومة فلسطينية صلبة وأصيلة، أثبتت أن هذا الشعب لا يكسر، وأن قضيته لا تدفن، وأن مشروع التحرير وبناء الدولة المستقلة ما زال حيا في وجدان الأحياء والشهداء على السواء.
أراد الاحتلال الإسرائيلي إطالة أمد الحرب في غزة، بالتوازي مع تصعيد في لبنان واليمن وسوريا، وصولًا إلى عدوان على إيران استمر أيامًا، هز المنطقة وجعل العالم يحبس أنفاسه على أعتاب حرب إقليمية. لكن التدخل الأمريكي، أولا عسكريا ثم سياسيًا، أوقف هذا العدوان وأعاد التوازن إلى المشهد. وبهذا، فشلت إسرائيل في توريط المنطقة وإدامة العدوان على غزة تحت ذريعة التوسع الإقليمي، وفقدت أهم أوراقها في تسويغ استمرار الحرب والمجازر.
اليوم، وبعد فشل إسرائيل في حسم معركة إيران، هناك فرصة حقيقية لوقف الحرب في غزة، خاصة بعد تصريحات ترامب الأخيرة، والتحولات الإقليمية والدولية المتسارعة، وتزايد الأصوات الدولية المطالِبة بوقف العدوان. وبعد إدراك الأطراف المختلفة، بما فيهم الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية والقوى الإقليمية، أن حماس لن تنكسر، ولن ترفع الراية البيضاء، وما زالت قادرة على الحضور والصمود، بل إن موقفها العسكري بات قويًا وتنفذ عمليات نوعية تستنزف بها الاحتلال الإسرائيلي.
من الواضح أن إسرائيل كانت تراهن على توسعة المعركة لتبرير استمرار عدوانها، ولكن بعد خفوت الجبهة الإيرانية دون حسم، بات من الصعب عليها الاستمرار وتبرير مجازرها في غزة أمام العالم. فقدت تل أبيب زمام المبادرة، واهتزت صورتها العسكرية والأمنية، واضطرت للتعامل مع غزة من موقع أضعف، مدفوعة باستحقاقات داخلية، أهمها الانتخابات، وملف الأسرى الذي بات معقدًا وضاغطا أكثر من أي وقت مضى.
كما أن العمليات النوعية الأخيرة التي نفذتها كتائب القسام، خاصة استهداف ناقلات الجنود والدبابات، والتوثيق الإعلامي المحترف، أثبتت أن المقاومة لا تزال تمسك بزمام المبادرة، وتعمل وفق تكتيك عسكري متقدم ومدروس. هذه ليست مجرد عمليات رد فعل، بل تحرك هادف لاستنزاف الاحتلال وإرباك قراراته. صمت المقاومة في فترات معينة لم يكن تراجعا، بل لحظة ترتيب وتخطيط استراتيجي.
ورغم الكارثة الإنسانية، بقيت الحاضنة الشعبية للمقاومة متماسكة، تشكل أكبر إنجاز ورافعة للصمود، وهذا ما لم يستطع الاحتلال كسره.
اليوم، تكثر الدعوات الإقليمية والدولية لوقف الحرب. لكن السؤال: هل هذه الدعوات تهدف فعلًا إلى وقف الإبادة وفرض انسحاب إسرائيلي، أم أنها تسعى لـ هندسة غزة من جديد، وإخراج الفاعل الفلسطيني الحقيقي من المشهد؟ هنا يبرز دور المقاومة في كشف النوايا، وفرض شروط فلسطينية على أي حل، تحفظ القضية وتعلي من كرامة الشعب، ولا تسمح بإعادة تدوير الاحتلال برعاية دولية.
ورغم التكلفة الباهظة التي دفعها شعبنا ومقاومته، وارتقاء عدد من أبرز القادة، وعلى رأسهم صفوة قادتها السياسين والعسكررين، فإن حركة حماس لم تتراجع، بل زادت انتماءً ووعيًا سياسيًا، وأكدت أنها جزء من الحل لا من المشكلة.
فحماس لا تسعى إلى سلطة، بل إلى تحرير وكرامة شعب، وقدمت رؤية وطنية ترتكز على: صفقة تبادل شاملة تطلق بموجبها الأسرى الإسرائيليون، مقابل وقف دائم وكامل للعدوان وانسحاب الاحتلال من غزة؛ وعدم المشاركة في حكومة مؤقتة لتفويت الذرائع على الاحتلال ولتسهيل عبور المرحلة الانتقالية سياسيًا دون اشتباك داخلي؛ والانخراط في حوار وطني شامل يرتب البيت الفلسطيني، ويعيد بناء النظام السياسي على قاعدة التكامل والشراكة.
إسرائيل تواجه مأزقًا معقدًا؛ من جهة، تعيش استنزافًا عسكريًا، وإخفاقًا سياسيًا، وإرباكًا في ملف الأسرى، ومن جهة أخرى، تقف أمام حكومة متطرفة تشكل عبئا على مستقبل الكيان، ورئيس وزراء يخشى المحاسبة أكثر من خوفه من الحرب نفسها. الاحتلال فشل في تحقيق أهدافه: لم يحرر الأسرى دون صفقة، لم يسقط المقاومة، لم يجد بديلاً لحماس في غزة، ولم يفرض مشروعًا سياسيًا قابلًا للاستمرار.
ما يمنع وقف العدوان حتى الآن هو: اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يضغط ضد أي تسوية؛ خوف نتنياهو من نهاية حكمه في حال وقف العدوان دون إنجاز؛ رفض إسرائيل للسلطة ولأي وحدة فلسطينية، وسعيها لتقسيم المشهد الوطني وفصل غزة عن الضفة؛ والخشية من عودة حكم حماس وسيطرتها. لكن، مع تزايد الضغط الأمريكي، وتغير المزاج الدولي، ووحدة الموقف الفلسطيني، قد نكون أمام فرصة حقيقية لفرض وقف للعدوان بشروط مقبولة.
لسنا أمام نهاية مؤكدة للحرب، لكننا بالتأكيد على أعتاب مرحلة جديدة، فرصة تاريخية يجب اقتناصها ببصيرة وطنية وإرادة موحدة.
شعبنا لم ينكسر، ومقاومتنا لم تهزم، والدم الفلسطيني لا بد أن يُثمر كرامة وحرية لا مساومة فيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. إبراهيم المدهون