العملة المعدنية أهم وأقوى لأسبابٍ كثيرة أولها أن قيمتها السوقية في نفسها، فهي تحمل قيمة حقيقية في ذاتها، بخلاف الورق الذي يعتمد فقط على “الثقة” في الدولة التي أصدرته وهذا ما يجعلها أقل عرضة للعقوبات الأجنبية والتي في الغالب تستهدف ثقة الناس في عملتهم كجزء من عقوبات اقتصادية تتم بدوافع سياسية، كما حدث ويحدث في أغلب الدول المناهضة للهيمنة الغربية.
إضافة إلى أنها صعبة التزوير، حيث لا يقل تزويرها كلفةً عن صناعتها، وعندها قد تحمل قيمة يمكن الاتجار بها حتى خارج النظام النقدي، في حين أن العملة الورقية تفقد كل معناها إن انهارت الثقة بمن يصدرها، كما حدث في أزمات التضخم المفرط (مثل ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى أو فنزويلا مؤخرًا).
وبالنسبة للعقوبات الخارجية، تتميّز العملة المعدنية بقدرتها على الإفلات من قبضة الأنظمة المالية العالمية، إذ لا تعتمد في وجودها أو قيمتها على النظام البنكي الدولي أو شبكات الدفع الإلكترونية، بل توجد ماديًا ويمكن تداولها مباشرة في السوق المحلية أو حتى استخدامها في المقايضة وحتى التهريب عند الضرورة.
كما أن طبيعتها غير الرقمية تجعل تتبّعها إلكترونيًا أمرًا بالغ الصعوبة، مما يحصّنها عمليًا من إجراءات التجميد أو العقوبات التقنية. وبفضل حجمها الصغير نسبيًا وقيمتها المتماسكة، يمكن اكتنازها أو نقلها بسرّية، وهو ما يجعلها أداة مفضّلة في أوقات الحصار الاقتصادي أو الاضطرابات المالية، حين تفقد العملة الورقية أو الرقمية جدواها تحت سطوة العقوبات الخارجية.
ونتذكر أن العملة الورقية تتيح للحكومات طباعة المال بكميات مهولة، كما حدث في المناطق اليمنية المحتلة، لسد العجز أو تمويل الحروب والسياسات التوسعية، مما يؤدي إلى تضخم مفتعل. أما العملات المعدنية، فلا يمكن طباعتها بلا حدود لأنها تعتمد على معادن حقيقية، ما يقيّد طموحات الطغيان المالي، ويُصعّب حتى على الدول الكبرى تمويل مشروعاتها الإمبريالية دون تكلفة حقيقية.
ولهذه الأسباب يخشى الغرب من تداول العملات النقدية ويشجع على تكريس الأوراق بدلاً عنها، فالعملات المعدنية تمنح الدول سيادة نقدية حقيقية، لأنها تستمد قيمتها من ذاتها لا من وعود سياسية أو توازنات مؤقتة. فعندما تُسك العملة من المعادن فإنها تصبح أصلًا بحد ذاتها، يمكن تداوله أو تخزينه أو مقايضته خارج حدود النظام المالي المفروض.
على النقيض من ذلك، العملة الورقية لا تحمل أي قيمة جوهرية، وتعتمد بالكامل على الثقة بالجهة المصدّرة، وهي ثقة يمكن أن تنهار فجأة بفعل اضطراب سياسي أو اقتصادي. وحين تنهار تلك الثقة، تنهار معها العملة، ويتحوّل النقد إلى أوراق لا تساوي ثمن حبرها. هذا الضعف البنيوي في الورق يجعل الدول النامية أو المعادية للغرب في حالة ارتهان دائم للنظام المالي الغربي، الذي يتحكم بتدفق الأموال والثقة والقدرة على الطباعة.
ولهذا السبب، يحارب الغرب بشدة أي اتجاه نحو العودة إلى العملات المعدنية أو الاعتماد على الذهب والفضة كغطاء نقدي، لأن ذلك يعني فك الارتباط بمنظومة الهيمنة الغربية، وتحررًا نقديًا يهدد سلطة المال المعولم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد محسن الجوهري