لطالما كانت جائزة نوبل للسلام منارةً إنسانية تُضيء عتمات الحروب، وتمنح الأمل لمن يناضلون من أجل السلام والعدالة ،وها هي اليوم امام اختبار صعب قد يفقدها البوصلة، ويحولها إلى أداة سياسية لتبييض صفحات سوداء لبعض الزعماء، بدلًا من أن تكون وسامًا يُمنح لمن يستحق منهم.
وباتت الجائزة العريقة في خطر حقيقي، بعد أن تسلل إلى لجنتها الداعمة شيء من الانحياز والتسييس، فباتت تُمنح بناءً على توازنات دولية، لا على تضحيات الضحايا أو إنجازات المخلصين.
ومن المفارقات التي فجّرت الجدل في الفتره الأخيرة، هو إعلان نتنياهو قاتل الأطفال والنساء وهادم المستشفيات وقانص الصحفيين ترشيح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لنيل جائزة نوبل للسلام ،هذا الرجل الذي يدعم القتل والتجويع والإرهاب في غزة واليمن وإيران، وهو من يشعل الشرق الأوسط باتفاقات سياسية أُطلق عليها تجاوزًا “اتفاقيات سلام”، بينما هي في جوهرها صفقات تجارية، كرّست الاحتلال وأهملت القضايا العربية.
فالسيد ترامب لم يكن رجل سلام، بل رجل مصالح، ومع ذلك خرج علينا بعض الإعلام الغربي ومراكز التأثير السياسية لترويج اسمه كـصانع سلام، في محاولة مكشوفة لإضفاء شرعية أخلاقية على قراراته المثيرة للجدل، فهو من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو من ضم الجولان وهو من يدعم قتل الاطفال وحرب الإبادة وقد وصف نتنياهو بأعظم رجل في العالم بعد أن رشحه لجائزة نوبل وهو يعلم جرائمه اليومية، وما يقوم به من جرائم ومخالفات للقانون الدولي ويظهر أمام الكاميرات كمرشح لرجل الحرب بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، فرغم تاريخه الدموي في غزة ولبنان، وضلوعه في حصار شعب بأكمله، لا يزال بعض اللوبيات الدولية الرخيصة يسوّقون صورته كـصانع للاستقرار ،بينما صور الأطفال تحت الركام تملأ الشاشات، والمجازر تُرتكب بدم بارد تحت ذرائع أمنية.
فنتنياهو لا يؤمن بالسلام بقدر ما يتقن استثماره، ولا يخجل من محاولات طمس الحقائق عبر تحالفات إعلامية غربية، تُشيطن خصومه، حتى بات من غير المستبعد أن نشهد – لا قدّر الله – ترشيحه يومًا ما لجائزة نوبل، تحت عنوان “السلام عبر الحسم العسكري”.
مما يجعلنا نتساءل هل نحن أمام نهاية رمزية نوبل؟
حين تُمنح جائزة نوبل للسلام أو حتى يُلوّح بها لأشخاص ساهموا في نشر الفوضى، وزرع الفتنة، وتقويض الاستقرار العالمي، فإننا لسنا أمام أزمة جائزة فقط، بل أمام سقوط أخلاقي مدوٍّ للمعايير الدولية التي تحكم هذا العالم.
لقد بات واضحًا أن الرأي العام العالمي هو الأمل الأخير لإنقاذ ما تبقى من الجائزة ،فعلى الشعوب أن ترفع صوتها، لا لتعارض الترشيحات المشبوهة فحسب، بل لتعيد تعريف “السلام” الحقيقي، الذي يبدأ من حماية المدنيين، والدفاع عن المظلومين، ورفض الاحتلال، ووقف المجازر، لا من توقيع اتفاقيات شكلية أمام الكاميرات.
إن السكوت على هذا الانحراف هو مساهمة في شرعنته ،لذلك يجب أن نتحرك جميعًا كإعلاميين، ومفكرين ونقابات وهيئات إلى لجنة نوبل وشعوب العالم وندعوهم من موقع المسؤولية الأخلاقية، ومن ضمير إنساني لم يُطفئه الدخان المتصاعد من الحروب، ونقول لهم لا تفرّطوا بما تبقى من رمزية الجائزة ، لا تجعلوا من نوبل وسيلة لشرعنة القتل، أو تلميع من لوّثوا أيديهم بدم الأبرياء. راجعوا معاييركم، وطهّروا قراركم من التسييس، وانحازو لمن يُضحّون بأرواحهم دفاعًا عن المستضعفين، لا لمن يُبرِمون الصفقات على حساب المآسي.
وإلى شعوب العالم، وإلى كل من لا تزال في قلبه بقية من ضمير:
لا تصمتوا على انحدار القيم، ولا تسمحوا بأن تتحوّل نوبل إلى شهادة زور تُمنح للمتنفذين ،طالبوا بالشفافية، بالعدالة، بصوت المقهورين، لا بروتوكولات الزيف. لتكن وقفتكم اليوم صرخة إنسانية تُعيد الاحترام لجائزةٍ كادت تفقد معناها.
فجائزة نوبل للسلام لا تُمنح لمن يملك السلاح، بل لمن يدفنه ، ولا تُمنح لمن يبني جدرانًا، بل لمن يهدمها ليبني جسور المحبة والكرامة.
وإن سكتنا اليوم، فقد نستيقظ غدًا لنجد نوبل في جيب طغاةٍ جدد يبتسمون وهم يطعنوننا من الخلف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ