لم يعد العميد جورج إبراهيم عبد الله، من اليوم فصاعداً، مجرد مناضل ومعتقل سياسي، قد تم تحريره وإطلاق سراحه؛ بل إنه أصبح أيقونة للحرية في بلد الأرز والزيتون.
لم يكن الخبر مفاجئاً البتة؛ لكنه كان ساراً للغاية: القضاء الفرنسي يُفرج عن الأسير والمعتقل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله، بعد أن أمضى 41 سنة تقريباً في السجن وفي المعتقل. هي قضية رأي عام من الطراز الأول، وهي أيضاً قضية وطنية بامتياز، وإن تغافل أو تعامى عنها بعضنا، وتجاهلها بعضنا الآخر، من اللبنانيين، ومن مدّعي رفع شعارات أو أقانيم الحرية والاستقلال والسيادة، ومن المتسلقين والانتهازيين، وممن يمارس ويمتهن الرياء والنفاق السياسيين. خرج جورج إبراهيم عبد الله، ذلك أنه أراد يوماً الحياة، بل كل يوم، فكان لا بد للقيد أن ينكسر، وكان لا بد لليل أن ينجلي.
العميد جورج إبراهيم عبد الله
في العقد الثامن من عمره، وبعد انقضاء ما يربو عن أربعة عقود من الزمن، يخرج المناضل البطل جورج إبراهيم عبد الله من غياهب السجن إلى رحاب الحرية، ليعود من معتقله في فرنسا إلى لبنان.
هو يعود مرفوع الرأس بالتأكيد، عزيزاً كريماً، غير مكسور وغير منكسر. لقد أمضى كل هذه الفترة الزمنية في السجن وفي المعتقل، ليكون أقدم سجين، بل أقدم معتقل سياسي، في فرنسا وفي أوروبا. وعليه، هو عميد الأسرى والمعتقلين، لا سيما الأسرى والمعتقلين اللبنانيين، إذ ينال، بالتالي وبالتبعية، عن جدارة، لقب: “العميد جورج إبراهيم عبد الله”.
القضية بين لبنان وفرنسا وأميركا و”إسرائيل”
إن الأطراف المعنية بالقضية من الناحيتين السياسية والقانونية هي تباعاً كل من: لبنان، وهو البلد الذي ينتمي إليه والدولة التي يتبع لها العميد جورج إبراهيم عبد الله؛ فرنسا، وهي التي سجنته وحاكمته واعتقلته؛ أميركا و”إسرائيل” اللتان دخلتا على خط هذه القضية، ومارستا الضغوط ووضعتا القيود على فرنسا، وربما أيضاً على لبنان.
أما لبنان، فتتحمّل فيه الدولة والحكومات المتعاقبة كل المسؤولية عن التقاعس والتقصير بمتابعة ومعالجة هذه المسألة الوطنية، القانونية، السياسية، الإنسانية والأخلاقية. قد يقود هذا التقاعس وهذا التقصير إلى طرح الأسئلة أو التساؤلات حول الضغوط على لبنان وراء التغافل عن القضية أو تجاهلها طيلة هذه الفترة من الزمن، وبالتالي عدم تحمّل المسؤولية الوطنية، بل التاريخية.
وأما فرنسا، فهي تتحمّل، بطبيعة الحال، المسؤولية عن الاعتقال التعسفي في انتهاك واضح وصريح لحقوق الإنسان، ولا سيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948. وهي مسؤولية الدولة الفرنسية – كل الدولة – بما فيها الحكومة الفرنسية، أو السلطة السياسية في فرنسا، أي السلطة التنفيذية بالتحديد، والقضاء الفرنسي، أو السلطة القضائية.
وقد يكون أيضاً من المهم، عند هذا الموضع وهذا المقام بالذات، أن نحيل جمهور القراء، كما الرأي العام، على المرجعين التاليين: المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان، الصادرة سنة 1953، ثم القانون الأساسي للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، الصادر سنة 1959، وهما يسموان، حكماً وحتماً، على القانون الفرنسي، الدستوري والإداري. فقد انتهكت فرنسا، أي الحكومة والقضاء، هاتين الوثيقتين المرجعيتين مع استمرار الاعتقال التعسفي، غير القانوني، ولأسباب سياسية. وهي فضيحة، بحد ذاتها، في بلد يدّعي أنه مهد الشرائع والتشريعات ومعقلهما.
وأما أميركا و”إسرائيل”، فإنهما تتحمّلان كل المسؤولية، السياسية، القانونية، التاريخية، الإنسانية والأخلاقية، في اعتقال الحرية الإنسانية وانتهاك الكرامة الإنسانية. لا شيء، على الإطلاق، يمكنه تبرير، ولا حتى تفسير، الضغوط السياسية وغير السياسية من كل من واشنطن و”تل أبيب” على باريس، لإعدام الحق في الوصول إلى العدالة والحصول عليها. وهي جريمة يندى لها جبين الحضارة الإنسانية برمتها.
أيقونة الحرية في بلد الأرز والزيتون
لم يعد العميد جورج إبراهيم عبد الله، من اليوم فصاعداً، مجرد مناضل ومعتقل سياسي، قد تم تحريره وإطلاق سراحه؛ بل إنه أصبح أيقونة للحرية في بلد الأرز والزيتون؛ كما إنه أصبح أيضاً أيقونة أممية لهذه الحرية من بلد الأرز والزيتون إلى العالم بأسره.
وهو يمثل قيمة وطنية، لا تُقدَّر بأي ثمن، ويجسد مخزوناً وطنياً من القيم والمبادئ والمعاني، التي قد لا يدركها، ولا يفقهها، ولا يعيها، البعض من هنا ومن هناك في الداخل وفي الخارج. هو، على غرار فيروز، جبران خليل جبران، جبل لبنان، المقاومة، الأرزة والزيتونة، أيقونة من لبنان، لا حدود لإشعاعها، أبى الخروج من سجنه والتحرر من معتقله، إلا أن يمسك نجمة من السماء، يخلّد بها اسمه إلى الأبد.
العنوان الرابع: المسيرة بين الماضي والحاضر والمستقبل
أثبت العميد جورج إبراهيم عبد الله، بالموقف، بالممارسة، بالدليل القاطع، وبما لا يدع مجالاً للشك، قدراته البطولية، التي قلّ نظيرها، على القبول بالتحدي، التحمّل، التماسك، الثبات، الصبر، رباطة الجأش، صلابة الإرادة وقوة العزيمة، إذ استحق جدارة الحياة، وليس العيش. جدير هو بالحياة، كما تليق به الحياة. هو كان حراً في حبسه ومعتقله، لا يساوم، ولا يقايض، ولا يتراجع، ولا يتخاذل، ولا يتنازل، حيث كسر قيود سجنه وسجّانه، من دون كلل، ولا ملل، ولا هوادة، ولا مهادنة؛ وهو سوف يكون حراً في بلده ووطنه وبين أهله وناسه.
أما وقد تقرر أخيراً إخلاء سبيله والإفراج عنه، من كل هذا الظلم وهذا التسلط، فحين يستعيد حريته في الخارج، كما كان يتمسك بحريته في الداخل، يبقى على الدولة اللبنانية – كل الدولة اللبنانية، أي الحكومة والقضاء والأجهزة الأمنية – تأمين وتوفير موجبات ومستلزمات ومتطلبات الحماية الشخصية له ممن يتربص به انتقاماً منه، من العدو الإسرائيلي وعملائه.
هذا للمستقبل القريب والبعيد. هو قام بما عليه في الماضي، إذ أدّى واجبه الوطني وقسطه إلى العلا، وإن كان من مثله لا يستكين ولا يستريح. وقد أنصفه الزمن في الحاضر، ويبقى علينا في المستقبل حمايته ورعايته وإكرامه وتكريمه.
لكل منا في هذه الدنيا وفي هذه الحياة تجربة خاصة به. وتجربة العميد جورج إبراهيم عبد الله فريدة من نوعها. فقد لا يفيه كل ما يُقال وكل ما يُكتَب عنه وفيه حقه علينا في هذا البلد وفي هذه الأمة. وكما نقول لطلابنا في الجامعة والجيش، نعيدها عبر منصة وعلى منبر الصحافة والإعلام: “من رحم الصعاب والمشقات، تولد النجاحات والانتصارات. ولا تمت قبل أن تمسك نجمة من السماء بيدك، فتترك أثراً، يخلّد ذكرك أبد الدهر”.
لقد نجح، بل انتصر، العميد جورج إبراهيم عبد الله، وسيبقى مجده خالداً للتاريخ. فالحياة وقفة عز، بحسب الزعيم الشهيد أنطون سعادة. ولا مكان للاستسلام، فإما النصر أو الشهادة، بحسب السيد الشهيد حسن نصر الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غلسان ملحم