مسألة نزع السلاح باتت أكثر تعقيداً في ضوء تداعيات الأزمة السورية المفتوحة على شتى الاحتمالات، وتداخل مواقف ومصالح لاعبين كثر، وفي مقدمتها الطرف الإسرائيلي.
تبدو واشنطن في عجلة من أمرها لانتزاع سلاح حزب الله، وفقاً لجداول زمنية ضيقة للغاية، لكأنها في سباق مع “الزمن السوري” الذي تثير تطوراته تحولات في نظرة الرأي العام اللبناني للسلاح ووظيفته… ذلك أن مشاعر الخوف والقلق على مستقبل المكونات اللبنانية أخذ يتفاقم منذ أحداث الساحل، وخصوصاً بعد ما جرى، ويجري، في السويداء وأطرافها.
الذين ناهضوا “السلاح” باعتباره تمرداً على “الدولة الوطنية”، شيعاً وقبائل… بعضهم يريد نزعه بأي ثمن، بل وربما يفضّل عليه “الميركافا” و”الأف 35″ الإسرائيليتين، جُلّهم سبقوا حكمت الهجري بسنين طويلة في البحث عن الحماية والملاذ الإسرائيليين… هؤلاء لا شفاء لهم من أمراضهم المستعصية، هم ثابتون على مواقفهم، حتى وهم يتابعون على الهواء صور الدمار الذي لحق بكنيسة العائلة المقدسة في غزة، وكنيسة مار إلياس في دمشق… لديهم دائماً ما يمنون به النفس سوى رهاناتهم الخائبة.
لكن ليس كل من يدعو لحصرية السلاح بيد الدولة ينتمي إلى هذه المدرسة… ثمة فريق من اللبنانيين، اتسع مؤخراً في ضوء نتائج حربي “الإسناد” و”أولي البأس”، ينطلق في مقاربته من الحاجة لمنح لبنان متنفساً وفسحة من الوقت للتعافي وإعادة البناء، وسط قناعة متزايدة بأن هذا السلاح لم يعد قادراً على القيام بوظائفه الثلاث في مواجهة “إسرائيل”: الحماية، الردع، والتحرير… هؤلاء، وبصرف النظر عن مدى صحة مقارباتهم من عدمها، يستحقون الانتباه، وجديرون بالحوار وصولاً إلى بناء تفاهمات وطنية أعمق وأعرض.
على أن تطورات المشهد السوري، في فصلها الأخير، قرعت أكثر من “ناقوس خطر” في أوساط أكثر من مكوّن لبناني، ليس الدروز وحدهم، بل المسيحيون والعلويون والشيعة، و”سنّة” الحواضر وأنصار البيوتات التي تعاقبت على قيادة وتمثيل “السنّية السياسية”، وبدأنا نرى مقاربات أقل حدّة في نظرة هذا الفريق إلى مسألة “السلاح”، تسللت حتى إلى أوساط “المارونية السياسية”، بدءاً بحزب الكتائب أو بعض رموزه على أقل تقدير.
وكان من تداعيات الحدث السوري، منذ الثامن من ديسمبر، أن تنامى دور “السنيّة الدينية”، ذات الطابع السلفي (وليس الجهادي فقط)، لا في لبنان وحدها، إنما في عموم المشرق العربي.
وكان لدخول العشائر العربية على خط أزمة السويداء، أن أنذر بصعود لاعب جديد لم يكن يُحسب له قدر كافٍ من الحساب من قبل، ولا سيما أن البيئة القبلية والعشائرية هي الأقرب إلى السلفية، وغالباً ما كانت حاضنة لها، باعتبار السلفية في مدارسها الأوسع انتشاراً أقرب إلى “فقه البداوة”.
وليس مصادفة أبداً أن خرائط انتشار السلفية الجهادية تكاد تتماهى مع خرائط انتشار القبائل والعشائر في معظم المناطق الساخنة وعلى امتداد خطوط التماس بين هؤلاء وخصومهم من دول وحركات.
وليس خافياً على أحد أن لبنان هو الأكثر “هشاشة” من بين دول المشرق، حين يتصل الأمر بتلقي تداعيات وتأثيرات الحدث السوري لاعتبارات التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا، وبالنظر إلى هشاشة الدولة ومؤسساتها، وغلبة الهويات الفرعية على الهوية الوطنية الجامعة… الأمر الذي يفسر تفشي القلق ويبرره، ويعيد ترتيب سلم الأولويات لدى مختلف الأطراف، وسيفضي لا محالة، إلى إعادة نظر في خرائط التحالفات والاصطفافات، ولعل من السابق لأوانه التكهن كيف ستجري هذه العملية أو كيف ستتطور.
واشنطن معنية باحتواء الوضع في السويداء على شكل تسويات وتهدئات تمكنها من إدارة الأزمة من منظور أوسع يقيم قدراً من التوازن بين المصالح المتضاربة لحلفائها في الإقليم، ولا سيما في سوريا وحولها، بخلاف “إسرائيل”، التي لم يعد لديها ما تعرضه على الأطراف، سوى الخضوع والخنوع لمنطق القوة الباغية، والاستسلام لدورها المهيمن في الإقليم، ما يثير قدراً من التباين بين الحليفتين الاستراتيجيتين، لا على الأهداف والمآلات الكبرى لاستراتيجيتهما المشتركة، بل حول “المعدلات” و”السرعة” التي سيجري بها إنفاذ مرامي هذه الاستراتيجية وأهدافها الكبرى.
وتجد المقاربة الأميركية لسوريا دعماً من قبل حلفاء عرب وأتراك وازنين، كما أنها تحظى بترحيب وقبول من قبل الإدارة السورية الجديدة، وذلكم أمر مستهجن تماماً، ولا سيما أن الولايات المتحدة في عهد ترامب لم تكف عن قول الشيء ونقيضه، فحديث توم بارّاك عن وحدة سوريا لا يجافي تصريحات واشنطن الداعية لـ”فيدرالية الطوائف والأقوام”، وواشنطن التي تكتفي بـ”التسريبات” للتعبير عن انزعاجها من أداء رئيس الوزراء الإسرائيلي (الطفل سيئ السلوك)، لا تبذل جهداً على الإطلاق لكبح جماحه، ولا تمارس أي ضغوط جدية لمنعه من المضي في سلوكيات العربدة والاستباحة، وتوفر المظلة والحماية له، حين ينبري المجتمع الدولي لإدانة السلوك الإسرائيلي والتنديد به.
ما الذي نستخلصه من كل ذلك؟ وما علاقة لبنان و”السلاح” به؟
الخلاصة الأهم، أن سوريا، وحتى إشعار آخر، ليست مرشحة للاستقرار، ولا مصلحة “لإسرائيل” في تعافي سوريا، أو عودة الدولة الوطنية السورية إلى الحياة من جديد… معنى ذلك أن واشنطن، وإن اختلفت مع “تل أبيب” حول “فقه الأولويات”، لن تبادر إلى ممارسة ما يكفي من الضغوط عليها أو تحميلها وزر أفعالها كما يشتهي ويراهن عربٌ كثيرون.
والأخطر أن دمشق، في عهدها الجديد، تظهر مرة أخرى أنها لا تتوفر على الأدوات الناعمة لضمان إدارة رشيدة للمرحلة الانتقالية وفتح نظامها السياسي الجديد لمشاركة مختلف الكيانات والمكونات، وأن السلطة الجديدة في دمشق تبدو منقسمة على ذاتها، فإن هي ذهبت بعيداً في مشوار التكيف مع مقتضيات المرحلة، واجهت مقاومة من داخلها، وإن هي استأخرت الحلول والمعالجات، ستواجه تحديات و”مقاومة” من خارجها، ناهيك بالطبع بضعف الكفاءة وقلة الاحتراف اللذين يطبعان أداءها.
أما كيف سينعكس ذلك على لبنان؟ فمن الواضح تماماً أن الانقسام الدرزي السوري الداخلي قد انتقل إلى دروز لبنان، وإن بدرجة أقل من الحدة، وأن يقظة العشائر السورية ستترك بصمات ثقيلة على توازنات القوى داخل الطائفة السنيّة، وأن اندلاع الفوضى على الحدود الشرقية والشمالية قد يصيب لبنان في عمقه، وليس على أطرافه فقط، والخطر هنا سيحدق بمختلف الطوائف والكيانات والمكونات.
لهذا السبب، يسابق توم باراك الزمن لانتزع قرار لبنان بنزع سلاح الحزب، مستفيداً من “التهدئة” على جبهة السويداء، لأن مهمته في إقناع اللبنانيين والضغط عليهم لفعل ما يريد، أو بالأحرى، ما يريد الإسرائيلي، ستكون أصعب بكثير، إذا ما تغلب سيناريو الفوضى الذي تحركه “إسرائيل” وتغذيه، وسيجد بعضاً من محاوريه اللبنانيين، المتحمسين لنزع السلاح، وقد باتوا أقل حماسةً.
“إسرائيل” بالطبع تتابع المشهد من كثب، ولديها حساب ثقيل مع حزب الله وسلاحه تبدو مصممة على إغلاقه، والأرجح أنها لن تفوّت فرصة البناء على “المكاسب” التي حققتها في حربها الأخيرة على لبنان وتعميقها… ستدخل عسكرياً على الخط، لا بالضربات الجوية المؤلمة والمدمرة فحسب، بل ربما، بتسجيل اختراقات على جبهة البقاع ضد معاقل حزب الله، لعلّها بذلك تكسر قدرته على ردع خصوم متربصين خلف الحدود الشرقية، فتشجعهم على تكرار سيناريو “الهجري” وميليشياته التي وفرت لها الحماية والغطاء، وتلحق لبنان بسيناريو الفوضى السورية.
ولا أحسب أن واشنطن ستكون قلقة من تطور كهذا، حتى وإن وجدت نفسها في موقف المعارض والمتحفظ على السلوك الإسرائيلي… فإدارة ترامب ستدعم سيناريو كهذا، إن كان بديله بقاء حزب الله واحتفاظه بسلاحه… وهي ستدعم توغلاً وتغولاً سوريين على لبنان، الذي هدد توم باراك بضمه إلى “بلاد الشام”، وستُحمّل الطبقة السياسية اللبنانية المسؤولية عن التدهور والانهيار، بذريعة أنها أظهرت مراوحة وتردداً في الاستجابة لمطلب حصرية السلاح، حتى وهي تمتنع عن تقديم أي ضمانات من أي نوع بأن هذه الحصرية ستتلازم وتتزامن مع انسحاب “إسرائيل” من الأراضي اللبنانية المحتلة، وإعادة الأسرى والمخطوفين، ووقف التعديات والانتهاكات اليومية المتكررة للأجواء والأراضي اللبنانية.
مسألة نزع السلاح، المعقّدة أصلاً، باتت أكثر تعقيداً في ضوء تداعيات الأزمة السورية المفتوحة على شتى الاحتمالات، وتداخل مواقف ومصالح لاعبين كثر، وفي مقدمتها الطرف الإسرائيلي، الأكثر تأثيراً وتوحشاً، وفي ظل توجه أميركي متماهٍ مع المصالح والأهداف الأبعد لحكومة اليمين الفاشي في “تل أبيب”.