لماذا كل هذا الخذلان لإخوانكم في الإنسانية؟ ولماذا كل هذا الخوف من قول كلمة حق ورفع الصوت عالياً في وجه الظلم والطغيان مع أن هذه أولى وأقدس مهمة أوكلت إليكم؟
وأنتم تجلسون أمام شاشاتكم تشاهدون أطفالاً ونساء ورجالاً في غزة وقد هزلت أجسادهم وهم يواجهون الموت جوعاً في عالم فقد كل معيار من معايير الإنسانية والأخلاق والقانون تظنون أنهم هم الذين يموتون وأنكم سعداء لأنكم في مأمن من هذه الجريمة المروعة، غير مدركين أن الذي مات أولاً قبل أطفال غزة هو ضمائركم وإنسانيتكم بسبب عجزكم عن محاسبة مجرمين ووضع حد لإجرامهم العنصري الشنيع.
إن مشاهد الموت في غزة نتيجة حرب الإبادة وإجرام التجويع غير المسبوق في التاريخ الحديث تنعى إليكم موت كل الأسس التي أرسيتم أسسها بعد الحرب العالمية الثانية والأنظمة الدولية، كما أنها تنعى إليكم من يدّعي القوة والسيطرة، لأن ما يجري يري بالعين المجردة عجز هؤلاء الحكام عن اتخاذ قرار أو موقف يمنحهم أهلية المواقع التي يشغلونها والألقاب التي تم إغداقها عليهم بسخاء ومن دون استحقاق.
إن كل ما ينجزه البعض اليوم من تقنيات وذكاء اصطناعي وقوة عسكرية مبهرة لا قيمة له إذا كانوا عاجزين عن إنقاذ أنفس أطفال بريئة من الموت وغير قادرين على أن يضعوا حداً لعصابة إجرام طغت وعطل لها أسيادها مجلس الأمن وكل القرارات الدولية كي تستمر في إبادة متوحشة لا يمكن أن تكون من صنع بشر طبيعيين، بل هي من صنع شرزمة عنصرية حاقدة جندت إعلام العالم للترويج لرواياتها العارية من الصحة وافتراءاتها وتضليلها الممنهج. إن عيون أطفال غزة ودموعهم وصرخاتهم ستلاحق أبناء هذا الجيل برمته كوابيس طيلة حياتهم، وسيصبح تجويع وإبادة أهل غزة وصمة عار على كل من عاش في هذا الزمن، وخصوصاً على حكامه ومؤسساته الدولية الذين لم يؤدوا واجبهم المهني والإنساني لإيقاف هذه الجريمة الكبرى.
بعد هذه الجريمة المنكرة بحق أهل غزة وفلسطين والآلاف من تلك العيون البريئة الحائرة والمتسائلة: لماذا؟ وكيف؟ وهل أصبح من الوجيه ومن الواجب أن نعلن موت الأمم المتحدة ومجلس الأمن وكل المنظمات التابعة لها، والتي كانت تدعي خدمة الإنسانية، بعدما تم استبدالها جميعاً بحكم الطغيان وشريعة الغاب والكذب علناً على الناس ومن دون خجل أو وجل وتنصيب المال بدلاً من الإنسان سيد الكون؟
أما أنتم أيها العرب، من المحيط إلى الخليج، فإن الموت الذي تشاهدونه اليوم في غزة هو مصيركم الحتمي غداً. وليس أهل غزة سوى الصف الأمامي منكم جميعاً، لأن الهدف الأساسي هو أنتم كلكم جميعاً من دون استثناء.
كانت فلسطين هي الاختبار ليكتشف العدو مدى التعاضد والتآزر بينكم ومدى الانتصار لبعضكم بعضاً. أما وقد برهنتم أنكم لستم أصحاب مواقف، وأن الأخ لا ينتصر لأخيه المظلوم، فانتظروا الآتي من الأيام. ألم تسمعوا ما قال أعداؤكم؟ قالوا إن فلسطين صغيرة، وإنها ليست هدفنا النهائي، بل هدفنا هو أن نكون أسياد المنطقة برمتها.
وقال أصدقاؤهم إن “إسرائيل” صغيرة جداً، والعرب لديهم أراضٍ كثيرة. ولذلك، نحن نؤيد توسع “إسرائيل”. لقد كانت فرصتكم التاريخية أن تؤيدوا فلسطين، ليس فقط من أجل فلسطين، بل من أجل أنفسكم وبلدانكم وشعوبكم، ولكنكم فقدتم هذه الفرصة. أما وقد فقدتم هذه الفرصة، فقد بدأتم بالعد التنازلي الذي لن يتوقف حتى يحكم الصهاينة قبضتهم على بلدانكم ومقدراتكم ومستقبل أبنائكم.
حينها، سيعتبرون كل العرب دون استثناء رعايا من الدرجة العاشرة في الولايات المتحدة الصهيونية، والتي أعلنوا عن حلمهم بها منذ عام 1979، وعلى لسان شمعون بيريز. في ذلك الوقت، لن يميزوا بين بلد عربي وآخر، ولا بين غني وفقير، بل سيكون الجميع عرباً تحت إمرة محتلين ومستوطنين.
العرب الحقيقيون هم من فصيلة الدكتور حسام أبو صفية النبيل الشريف المقاوم، الذي رفض أن يهجر مرضاه وهو مدير مشفى الشفاء الطبي في غزة قبل أن يدمره الإسرائيليون رغم كل التنكيل به والتهديد، ورغم أنهم قتلوا ابنه، ومع ذلك رفض أن يخذل مرضاه. لقد اعتقله المحتلون وهو يتعرض لأبشع أنواع التعذيب النازي في سجون الاحتلال، ولكنه أثبت حتى لأعدائه ما معنى المروءة والشهامة والنخوة العربية الأصيلة.
هذه هي شيم العرب الحقيقية وقيم الديانات السماوية وجوهر القيم الإنسانية الحقة، فأين هم العرب والغرب والعالم كله من هذا الذي يجري اليوم في فلسطين ومن فداحة تناقضه مع كل المواثيق والأعراف الإنسانية والكتب السماوية؟ الذي نشهد موته اليوم مع أطفال فلسطين المجوعين المظلومين هو أنبل القيم العربية من التضحية والفداء الإيثار. هل أقنعوكم أن على كل إنسان أن يهتم بخلاصه الفردي فقط؟ لا خلاص لأحد في وطن مقهور مظلوم تتحكم فيه عصبة من مستوطنين نازيين عنصريين حاقدين. لقد روجوا لمثل هذه الأقاويل كي تتخلوا عن مبدأ التعاضد والتكافل والمروءة والإيثار والمقاومة، واحتفظوا بمبدأ التكاتف لأنفسهم، ولكن نصرة المظلوم ومقاومة الظلم والاحتلال والطغيان تبقى وإلى آخر الزمان أقل ثمناً من الاستسلام والهوان.
أما أكذوبة الديمقراطية الغربية وحرية الإعلام وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل، فقد سقط القناع عن القناع، إذ نشهد اليوم عنصرية تلزم الصمت إزاء تجويع وإبادة مئات الآلاف من البشر الأبرياء، لأن المرتكب جزء من الغرب، ولأن الضحايا ليسوا غربيين.
فلهم حقوقهم وديمقراطيتهم، ولنا الاحتلال والاستيطان والقتل ونهب الثروات وتدمير إرثنا وثقافتنا ومنظومتنا القيمية والأخلاقية واجتثاث كل ما يثبت تفوقنا الحضاري والتاريخي كي يبنوا حصونهم المستقبلية على ركام مدننا وآثارنا وتاريخنا، ثم كي يضعوا نصب حرية آخر يزوره السواح، ويشهدون على عظمة ما أنجزه استيطان بغيض بعدما ارتكب أفظع الجرائم بحق البشر والحجر وحذف كل أثر لضحاياه من الذاكرة البشرية، كما فعل داعمو هذه الإبادة الأساسيون اليوم بشعوبهم الأصلية بالأمس. ألا ترون أن التاريخ يعيد نفسه؟ أفلا تتفكرون؟
أما تصريحات مسؤولي الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، فهي مخزية بالفعل، وهي تعبير عن خذلان ما بعده خذلان. ما زالوا يتحدثون عن احتمال وقوع مجاعة في غزة بعدما حصدت المجاعة آلاف الأرواح البريئة، وبعدما أصبح من المستحيل لأي صاحب ضمير حر أن يتمكن من النظر إلى الشاشة. لماذا كل هذا الخذلان لإخوانكم في الإنسانية؟ ولماذا كل هذا الخوف من قول كلمة حق ورفع الصوت عالياً في وجه الظلم والطغيان مع أن هذه أولى وأقدس مهمة أوكلت لكم.
فإذا تحكم فيكم الخوف، غادروا مناصبكم كي يشهد التاريخ أنكم لم تقبلوا أن تكونوا شهوداً على إجرام وظلم وإبادة بحق أطفال ونساء ورجال لا ذنب لهم ولم تنصروهم ولا حتى بكلمة حق. هؤلاء الأطفال الأبرياء سيشغلون صفحات تاريخ المستقبل. أما حكام اليوم الصامتون والمتخاذلون، فسيلحق بهم وبذرياتهم الخزي والعار.