التحرّك الفرنسيّ للاعتراف بدولةٍ فلسطينيّةٍ منزوعة السلاح، شريطة اعترافها بشكلٍ كاملٍ بإسرائيل، هو محاولة بائسة ويائسة من الرئيس ماكرون لدخول التاريخ وترك أثرٍ وبصماتٍ على مسيرته في الإليزيه، علمًا أنّ شعبيته في بلاده وصلت إلى الحضيض، وقبل الخوض في هذه القضيّة، التي تؤكِّد أنّها لن تجني أيّ ثمارٍ لمشكلة الشعب العربيّ الفلسطينيّ، وهي أعدل قضية على مرّ التاريخ، نجد لزامًا على أنفسنا، كبشرٍ، كعربٍ وكفلسطينيين، أنْ نسأل دون مواربةٍ: أينكم، أنتم هناكَ في “عاصمة الأضواء”، من حرب الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيين في غزّة؟ ماذا فعلتم من أجل وقف هذه الكارثة الإنسانيّة؟ وكيف تُفسِّرون لنا أنّكم سكتتم دهرًا ونطقتكم كُفرًا؟
حسنًا تفعلون لو تذّكرتم، كما غرسنا نحنُ في ذاكرتنا الفرديّة والجماعيّة، مقولة الكاتب الأوروغواي، إدوارد غاليانو: “التاريخ لا يقول وداعًا أبدًا، التاريخ يقول سأراكم لاحقًا”. فرنسا، سيّداتي وسادتي، كانت وما زالت وستبقى دولةً عظمى واستعماريّةً تدور في فلك الولايات المُتحدّة الأمريكيّة وحبيبتها-ربيبتها، إسرائيل. ثمّ، كيف لنا أنْ نشطب الدور الفرنسيّ في اتفاق سايكس-بيكو، (1916)، حيث تقاسمتم مع بريطانيا تركة العثمانيين في منطقة الشرق الأوسط؟ ذاكرتنا لا تخوننا، فنحن نعلم، وأنتم تعلمون أنّنا نعرف، بأنّ فرنسا هي التي أدخلت السلاح النوويّ لإسرائيل ليكون سلاحًا رادعًا للأمّة العربيّة من محيطها إلى خليجها! أنتم، وليس غيركم، شاركتم في العام 1956 بالعدوان الثلاثيّ على مصر، بمُشاركة المملكة المُتحدّة ودولة الاحتلال، بعد قرار المارد العربيّ، جمال عبد الناصر، القاضي بتأميم قناة السويس، فعلى الصعيد البريطانيّ كان الهدف من العدوان التخلّص من عبد الناصر الذي هدّدّ النفوذ البريطانيّ بتحقيق الجلاء، وتحالف مع السوفييت، وأمَّم القناة التي تمرُّ منها المصالح البريطانيّة، وعلى الصعيد الفرنسيّ كانت فرصةً للانتقام من عبد الناصر الذي سانَدَ ثورة الجزائر، وأمَّم القناة التي كانت تحت إدارةٍ فرنسيّةٍ، في حين وجدت إسرائيل فرصتها لفكِ الخِنَاق المُحكَم على سفنها في قناة السويس وخليج العقبة.
برّبكم ودينكم كيف يُمكِن أنْ نتغاضى عمّا فعلته فرنسا عندما كانت تحتّل الجزائر، فقد سقط في قمع سلطات استعمارها الجزائر، من (الخامس في تموز- يوليو 1830 وحتى الخامس من تموز- يوليو 1962)، ما يربو عن مليون شهيدٍ، ولضيق المكان نقتبِس هنا عددًا من الأفعال الوحشيّة التي ارتكبتها فرنسا، فمثلاً في مجازر أيّار (مايو) 1945 بمدينة سطيف وقالمة وخراطة سقط خلال ثلاثة أيام 45 ألف قتيلٍ، بحسب إحصاءات الذاكرة الوطنيّة الجزائريّة، برصاص الشرطة والجيش ومليشيات المستوطنين.
كما ارتكب جيش الاحتلال الفرنسيّ العديد من الجرائم ضدّ المدنيين، والتي سماها المؤرخون بـ (الرازيا)، وروى العقيد مونتانياك: “أخبَرَني بعض الجنود أنّ ضباطهم يُلِّحون عليهم ألّا يتركوا عربيًا واحدًا حيًّا، كلّ العسكريين الذين تشرّفت بقيادتهم كانوا يخافون إذا أحضروا عربيًا حيًّا أنْ يُجلدوا”. فيما قال النائب البرلمانيّ طوكوفيل: “إنّنا نقوم بحربٍ أكثر بربريّةً من العرب أنفسهم، لم يستطع الفرنسيون هزم العرب حربيًّا فهزموهم بالتدمير والجوع”. ويُضيف مونتانياك: “النساء والأطفال اللاجئون يُسلِّمون أنفسهم لنا، نقتل، نذبح، صراخ الضحايا واللاقطين لأنفاسهم الأخيرة يختلط بأصوات الحيوانات التي ترغي وتخور، كلّ هذا آتٍ من سائر الاتجاهات، إنّه الجحيم بعينه وسط أكداسٍ من الثلج، إنّ كلّ ما قمنا به خلال أربعة أشهر في هذه العمليات يثير الشفقة حتى في الصخور، ولكن ليس لدينا، وكنّا نتعامل معها بلا مبالاةٍ جافّةٍ تثير الرجفة في الأبدان”.
ويقول النقيب لافاي:” لقد أحرقنا قرى، لم يتراجع جنودنا أمام قتل العجائز والنساء والأطفال، إنّ أكثر الأعمال وحشيّةً هو أنّ النساء يُقتلن بعد أنْ يُغتصبن، وكان هؤلاء العرب لا يملكون شيئًا يدافعون به عن أنفسهم”.
الجزائر لقنّت الفرنسيين درسًا لا يُمكِن بأيّ حالٍ من الأحوال نسيانه، فقد تحرّرّت من طغيان المُحتّل الغاشم، في الخامس من حزيران (يونيو) 1962، ولكنْ نقولها بحسرةٍ وألمٍ شديديْن: هل تسقط جرائم فرنسا في الجزائر بفعل التقادم؟ لماذا لا تمثُل هذه الدولة المارِقة أمام المحكمة الدوليّة في لاهاي لتدفع ثمن فظائعها في البلد العربيّ، الذي نال أوْ بالأحرى انتزع الحُريّة بعد أنْ دفع الغالي والنفيس؟ كيف لدولةٍ كهذه أنْ تعمل على إحلال السلام وتاريخها كُتِبَ فيما كُتِبَ بحروفٍ من دماء العرب والمُسلمين؟ كيف لحَكَمٍ أنْ يُدير مباراة كرة قدمٍ وهو ينحازُ لأحد الفريقيْن؟ ولكن السؤال الأهّم بالنسبة لنا: كيف لأنظمةٍ عربيّةٍ أنْ تثِقْ بالسياسات الخارجيّة الفرنسيّة، التي لا تعرف القيم ولا تعترف بالأخلاق، بلْ تسير وفق مصالحها ليس إلّا؟ وغنيٌّ عن القول إنّ مصالحها لا تتوافق مع تطلعّات الشعب الفلسطينيّ المكلوم، لا بلْ أكثر من ذلك، هذه الدولة تعمل كلّ ما في وسعها لشطب الحقوق التاريخيّة لهذا الشعب، وفي مُقدّمتها حقّ عودة اللاجئين إلى ديارهم التي شُرّدوا وهُجِّروا منها في النكبة المشؤومة عام 1948.
ومع أنّنا لا نقرأ بالفنجان ولا نؤمن بالسحر والشعوذة، نقولها وبالفم الملآن: المُبادرة الفرنسيّة الحاليّة، مصيرها الفشل المحتوم، وهدفها تسجيل باريس النقاط لدى الرأي العّام المحليّ والأوروبيّ وحتى العالميّ على حساب جراح وآهات وقتل وذبح وتجويع الفلسطينيين في جميع أماكن تواجدهم، لذا ولأسبابٍ أخرى، لا أخجل منكم حين أُصارحكم: المبادرة الفرنسيّة وُلِدَت ميّتةً وإكرام الميِّت دفنه.