ما يجهله أغلب المسلمين اليوم أن الكرامة جزء رئيسي من الدين، وأن من يتخلى عن كرامة فلا دين له، ومن يقبل بالإهانة والإذلال فقد افترى على الله كذباً عندما قدم شهادة مغلوطة عن الإسلام بأنه يقبل الإذعان لأعدائه من أجل حفنة مصالح. إن عظمة الإسلام عصية على أن يفهمها عبيد المال من حكام وجماهير العرب الغارقين في اللذات ويرون في الثورة على أعداء الأمة ضربا من المغامرة والانتحار، لكن غزة قدمت الشاهد على أن الإسلام باقٍ ولو بأبهض الأثمان، ولا دين لمن يعبد غرائزه على حساب كرامته وشرفه.
أن الكرامة ليست زائدة على الدين، بل هي من صميمه، وأن الإسلام لا يقبل لعبدٍ أن يخنع للذل، ولا لمؤمنٍ أن يسكت على الهوان. فمن يتنازل عن كرامته، فإنما يُسقط عن نفسه أول شروط الإيمان، ومن يرضى بالإهانة باسم “الواقعية” أو “السياسة” أو “الخوف”، فقد قدّم شهادة زور ضد الإسلام حين زعمه دين خضوعٍ واستسلام.
إن عظمة الإسلام لا تُقاس بكثرة الشعائر، بل بحجم الموقف عند لحظة الانهيار العام، بعد أن يتراجع الجميع وتبقى قلّة تؤمن أن الوقوف في وجه الباطل هو جوهر الدين لا هامشه. تتجلى عظمة الإسلام في لحظة الرفض، حين لا يكون الرفض شعارًا أجوف، بل فعلًا مكلفًا، يضع الإنسان في مواجهة العدو والمجتمع والهوى والراحة، ولا يبقي له إلا الله.
غزة وحدها اليوم أعادت تعريف الإسلام في صورته الحقيقية: إيمانٌ لا يُساوم، وصمود لا يُقايَض، ودمٌ يُبذل في سبيل أن تبقى راية الحق مرفوعة. وفي مواجهة الحصار والتجويع والخذلان، لم تقل غزة “سلمًا”، بل قالت: “الكرامة أولاً”، ولم تركع لجوع أو موت، لأنها اختارت الله على حساب الغرائز، واختارت الجهاد على حساب البقاء الحيواني.
ولذلك، فإن غزة – لا العواصم المخدَّرة ولا المنابر المرتهنة – هي من تمثل الإسلام اليوم. وهي من تحفظ وجه الأمة من أن يُسحق كليًا في وحل الخضوع والتطبيع والعبودية المعاصرة. إن كل من ينظر إلى أهل غزة ويصفهم بالمغامرين، أو يلومهم على تضحياتهم، هو في الحقيقة لا يؤمن بالله كما ينبغي، ولا يثق بوعده، ولا يعرف شيئًا عن سننه في التمكين والنصر، فلا دين لمن لا كرامة له، ولا كرامة لمن خضع للعدو بحجة “العقلانية” أو “المصلحة”.
لقد اختارت غزة أن تدفع ثمن الكرامة، بينما اختار غيرها أن يقبض ثمن الذل، وهنا تتجلّى المفارقة المروّعة: غزة الجريحة، المحاصرة، المجوَّعة، المختنقة بالدمار والنار، قالت “لا”، بينما عواصم عربية ترفل بالمال والسلاح والأجهزة والفضائيات، ما زالت ترتجف أمام العدو، وتطلب الأمن من بوابات الخنوع، وتبرّر العار بالسياسة، والخذلان بالحكمة، والسكوت بالعقل.