يفتك الجوع بأكثرَ من مليونَي إنسان في قطاع غزة، والأشدُّ منه يفتِكُ الخنوعُ بأكثرَ من مليارَي إنسان على امتداد خارطة الأُمَّــة الإسلامية، عربًا وعجمًا.

جوعُ غزة ليس اختياريًّا ناتجًا عن إضراب الجائعين عن الطعام، ولا عن رفضهم السعي في أرض الله لكسب الأرزاق، ولا عن جدبٍ وقحط، ولا عن آفة أتت على مدخراتهم، ولا عن عقابٍ إلهيٍّ منع السماء من القطر والأرض من الإنبات، بل إن جوع غزة بفعل إجرام أنظمة الغرب وتآمر أنظمة العرب، وخنوع شعوب الأُمَّــة الإسلامية – إلا من رحم الله، وهم قليل.

ومع جوع غزة، هناك عزةٌ وكرامة، وتمسك بالدين والوطن، ورفضٌ لمخطّطات المجرم ترامب بالإخلاء مقابل وعود بالرفاهية خارج النطاق الجغرافي للقطاع.

لقد أفشل صبرُ أهل غزة كُـلَّ مخطّطات التهجير، وحيّر تقبُّلُهم للموت على تراب وطنهم عدوَّهم، وأذهل صمودُ مجاهديهم العالَمَ بأسره، وأربك إصرارهم وعزمهم حسابات أرباب النفاق والزيف والتضليل، لدرجة أصبح معها التناقض الصارخ عنوانًا لتخبطهم في مواقفهم: ففي المساء إقرار، وفي الصباح إنكار، وفي الصباح إقرار، وفي المساء إنكار… وهكذا حالهم!

حالة أبناء غزة ليست خيارًا، وصبرُهم وصمودهم وموتهم جوعًا وعطشًا ليس انتحارًا، بل جهاد في سبيل الله وشهادةٌ على أعدائه.

فهم وإن رحلوا عن هذه الدار الفانية، أحياء عند ربهم، كما قال عز وجل:

﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.

وإذا كانوا كذلك – وهم كذلك فعلًا – فهم الفائزون بما عند ربهم من جزاء الصابرين، فأي صبر مثل صبرهم؟ وأي احتساب مثل احتسابهم؟

أكثرُ من مليارَي مسلم اختاروا الخنوع طواعية، إلا قليلًا منهم، وخيارهم هذا ليسَ بسَببِ التباس الأمر عليهم، أَو لانعدام المنهج المحدّد لمواقفهم؛ فالأمر واضح لا لبس فيه ولا غموض، والمنهج صريح في تحديد الواجب عليهم:

﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ…﴾.

كما أن المنهجَ القويم صريح كذلك في تحريم موالاة أعداء الأُمَّــة، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أولياء…﴾.

ومع ذلك، اختارت بعض شعوب الأُمَّــة الإسلامية، وتحديدًا العربية والخليجية، الصمت على موالاة حكامها لأعداء الأُمَّــة، رغم أن المسؤوليةَ عليهم أمام الله سبحانه وتعالى فردية وجماعية، ولا عذر للجميع أمام الله، كما أوضح ذلك بشكل مفصَّل السيد القائد الشهيد حسين بدر الدين الحوثي – رضوان الله عليه -، الذي أولى فلسطين وأبناء الشعب الفلسطيني جل اهتمامه، في وقت لم يكن الخطر عليهم كما هو عليه اليوم.

وقد حذّر – رضوان الله عليه – من التنصل عن المسؤولية المترتبة على واجب نصرة المستضعفين في فلسطين تحت أي مبرّر، معتبرًا ذلك نبذًا لكتاب الله، وخزيًا للمسلمين، وتقصيرًا عظيمًا أمام الله سبحانه وتعالى.

فالأمة الإسلامية كيان واحد لا يتجزأ، والدين الإسلامي – حسب تعبيره – لم يوزع جغرافية الأُمَّــة إلى قطاعات ومناطق، فليس من في هذه المنطقة مسؤولًا فقط عما يحدث فيها، وليس من أبناء منطقة ما معفيين من مسؤوليتهم تجاه ما يحدث في مناطق أُخرى. لا يوجد في القرآن الكريم توزيع للعالم الإسلامي أَو الأرض إلى قطاعات، بحيث تختص كُـلّ منطقة بمسؤولية محصورة فيها فقط.

وموقف الشعب اليمني اليوم، بقيادة السيد العلم عبدالملك بدر الدين الحوثي – حفظه الله – دفاعًا عن أبناء الشعب الفلسطيني، هو تجسيدٌ حيٌّ لرؤية السيد القائد الشهيد حسين بدر الدين الحوثي – رضوان الله عليه – تجاه قضايا الأُمَّــة الإسلامية عُمُـومًا، وتجاه قضية الشعب الفلسطيني خُصُوصًا.

وبهذا الموقف، اختار شعب الإيمان والحكمة العزة، التي هي صفة المؤمنين الصادقين، وابتعد عن الذلة، التي هي صفة المنافقين.

وقد توعد الله سبحانه وتعالى الكفار والمنافقين بجهنم، فقال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾.

فهل ستعي أُمَّـةُ المليارَي مسلم أن الخنوع الذي يفتك بها اليوم يَصمُها بالنفاق؟

سواءٌ بصمتها على إبادة أبناء غزة وتجويعهم، أَو بصمتها على مواقف حكامها الموالية لأعداء الأُمَّــة، ليكون أُولئك الحكام شركاء لمن والوهم في جريمة إبادة إخوانهم من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتكون شعوب الأُمَّــة شريكة لحكامها في الجريمة، بصمتها عن شراكتهم فيها.

والواجب اليوم على الشعوب الإسلامية، العربية تحديدًا، أن تواجه حكامها وتسألَهم:

ما سرُّ شجاعتهم وإقدامهم وحشد تحالفهم في العدوان – بالأمس القريب – على الشعب اليمني دون مبرّر؟

وما سِرُّ جبنهم وذلهم وخنوعهم عندما يتعلق الأمر بنصرة إخوانهم في غزة في مواجهة كيان الإجرام الصهيوني وشركائه في الجريمة؟

ومصارحتهم بأن ذلك هو عين النفاق، وأن الشعوب المؤمنة المعتزة بدين الإسلام لا تقبل أن يحكمها الجبناء الخانعون المنافقون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د/ عبدالرحمن المختار