في تحول لافت في نبرة الإعلام الغربي، تناولت عدد من الصحف العالمية الكبرى مأساة المجاعة المتفاقمة في قطاع غزة بلغة أكثر وضوحًا وأقل مواربة، حيث لم تعُد تغطية المجازر الإسرائيلية حبيسة المفردات الدبلوماسية، بل انطلقت تعبيرات مثل “فشل إستراتيجي” و”مسرحية هزلية” لتوصيف مشاهد إسقاط المساعدات جواً على رؤوس الجوعى.
ونشرت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية قائمةً مطوّلة بأسماء 60 ألف ضحية فلسطينية، ثلثهم من القاصرين، بينهم أكثر من ألف رضيع لم يبلغوا عامهم الأول. وتروي الأرقام – التي استُقيت من وزارة الصحة في غزة – قصة حرب تستهدف المهد قبل أن تبلغ الروح الحلم.
وفي سابقة نادرة، اختارت الصحيفة نشر الأسماء باللغتين العربية والإنجليزية، في محاولة لاختراق الصمت السياسي الأمريكي بلغة المشاعر والفجيعة. وبين سطور الأرقام، رسالة صامتة: “هذه حرب بلا قيد ولا شرف”.
أما “الغارديان” البريطانية، فسلّطت الضوء على البعد البنيوي للجريمة، مؤكدة أن إسرائيل دمّرت الزراعة، منعت الصيد، وضيّقت على المساعدات، لتخلق بيئة مجاعة مدروسة بعناية. واستحضرت الصحيفة تصريحاً شهيراً لمساعد أولمرت:“الفكرة هي إخضاع الفلسطينيين لحمية.. دون تركهم يموتون جوعًا.” لكن يبدو أن “الحمية” هذه خرجت عن السيطرة، فتحوّلت إلى مجزرة غذائية في وضح النهار.
صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية أجرت مقابلات مع مسؤولين ميدانيين في منظمات إنسانية عاملة في غزة، أجمعوا فيها على أن إسقاط المساعدات من الجو لا يعدو كونه “عرضًا استعراضيًا لإسكات الضمير الغربي”، واصفين المشهد بأنه “مكلف، غير فعّال، وخطير”.
وقالت بيكي رايان من منظمة “كير”:“نتفهم جاذبيته من الأعلى… لكنه لا يُشبع بطناً واحداً.” فيما وصفت هيلينا رانتشال من منظمة “أطباء العالم” العملية بـ“المسرحية الهزلية الإسرائيلية”، التي تهدف لتصوير إسرائيل كطرف متعاون مع الإغاثة الإنسانية بينما تتسبب فعلياً بالمأساة.
“الإيكونوميست” من جهتها لم تتردد في وصف استراتيجية إسرائيل منذ مارس الماضي بـ”المنهارة“، معتبرة أن لجوء الاحتلال إلى السماح بعمليات الإنزال الجوي هو اعتراف بفشل منظومة الحصار والتجويع، التي لطالما تغنّت بها تل أبيب بوصفها أداة ضغط سياسي وأمني.
وأشارت المجلة إلى أن مؤسسة “غزة الإنسانية”، التي أوكلت إليها إسرائيل دور توزيع المساعدات، لم تقدم سوى نموذج كارثي لإدارة الفقر والجوع تحت الرعاية الأمنية.
ووسط الزخم المتصاعد في أوروبا تجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية، طرحت “الفايننشال تايمز” سؤالاً وجودياً حاداً: “ماذا تبقّى من فلسطين ليُعترف به؟” وتصف الصحيفة هذه التحركات الغربية بأنها لم تعد تعبيرًا عن إنصاف تاريخي، بل تحوّلت إلى أداة لمعاقبة إسرائيل على سلوكها الوحشي، رغم أن الميدان بات يفتقد الأرض، والمؤسسات، والمجتمع المدني – أي مقومات الدولة في حدّها الأدنى.
ما تكشفه الصحف الغربية، ليس جديدًا على من عايش المأساة في غزة، لكنه مؤشر على تصدّع الجدار الأخلاقي الذي كانت تقف خلفه المؤسسات الإعلامية والدبلوماسية الغربية. فالمجاعات لا تُداوى بالمظلات، والمجازر لا تُغسل بصور الطائرات وهي تلقي أكياس الأرز على أنقاض البشر.
وإذا كانت بعض العواصم الأوروبية قد بدأت تلوّح بـ“الاعتراف بفلسطين”، فإنّ غزة تسأل بصوت مرتجف: “هل تعترفون بالشهداء.. أم فقط بما تبقّى من رماد الأرض؟”