ماذا ستفعل إن طُلب منك الخروج من بيتك عنوة، تحت تهديد السلاح، للذهاب إلى مكان بعيد جدًا، وعليك حمل أغراضك التي في بيتك، وإلا فإنك ستموت عطشًا وجوعًا؟!
خرجت أحمل حقيبة خلف ظهري، بجواري زوجتي التي تحمل حقيبة ظهر أخرى، خلفنا الأبناء، يحمل كل واحد فيهم حقيبة لا تتسع إلا لبعض الأشياء، نضع زادنا وشرابنا، ننزح باتجاه اللامكان، أين نذهب؟ وماذا نفعل؟ وكيف السبيل للوصول إلى منطقة آمنة؟ وقد كان الاحتلال قد شرع بداية الحرب بإرسال تهديدات مباشرة للسكان بالنزوح نحو جنوب قطاع غزة عن طريق شارع صلاح الدين، شرق مدينة غزة، أو عن طريق شارع الرشيد، غرب مدينة غزة، فصار الناس يعيشون القيامة، لا يهتدون إلى سبيل، حيث عمد الاحتلال تلك الليلة التي لا يمكن لي أن أنساها إلى قصف مربعات سكنية بأكملها، ولم نكن قد اعتدنا مشهد الدم بذلك الشكل المرعب، الصراخ في كل مكان، وسيارات الإسعاف تسير في عتمة الشوارع نحو أماكن كثيرة، لنقل جثث أكثر.
لذلك قررنا في الصباح أن نغادر مخيم الشاطئ إلى مكان آخر، ولكن ليس إلى الجنوب كما يريد الاحتلال، بل نحو مقر (UNDP) المجاور لمستشفى الشفاء، ثم بعد ساعة واحدة فقط شعرنا باختناق نتيجة تكدس النازحين؛ فقررت وزوجتي الهرب إلى بيت عائلتها في شمال قطاع غزة، وتحديدًا إلى منطقة الجرن بمخيم جباليا، حيث مكثنا هناك مدة خمسة وأربعين يومًا، تعرضنا خلال تلك المدة إلى أكثر من محاولة استهداف، إضافة إلى متابعة مشهد النزوح مجددًا في شوارع وأزقة مخيم جباليا بينما تطلق مدفعيات الاحتلال قذائف الهاوتزر وكذلك القنابل الدخانية والفوسفور الأبيض المحرم دوليًا، لذلك عدت مجددًا إلى مخيم الشاطئ، وكان المكان يشبه مدينة الأشباح، حيث ظل الاحتلال يحاصر المكان الذي عدنا إليه بلا خوف، متخفين بين الأزقة حتى وصلت بيت عائلتي، وكأن أجسادنا تكلست فأصابتها مناعة غريبة، وكان عدد السكان قليلاً جدًا، ربما لا يتجاوز خمسمئة فرد على الأكثر في كل المخيم، والشوارع خالية إلا من أطفال لا يعرفون معنى الحرب أو الموت.
وبالعودة مجددًا إلى بداية رحلة النزوح تلك، وبينما نحن في شارع طارق بن زياد، قال طفلي أسامة جملة لا يمكن نسيانها قط: “يابا، شكلنا انتقلنا من مرحلة تحرير فلسطين إلى مرحلة تحرير غزة”. وقد صدمني استشرافه لمستقبل القطاع؛ فأجبته كما سأظل أجيبه بقناعة تامة: “هاي مرحلة مؤقتة يابا، والنصر على الأبواب، عندما تتوفر الأسباب لذلك”.
إذ إنني غارق في قراءة المشهد السياسي، ومتابعة تفسير النص القرآني، وقراءة التاريخ وفهم أحجية لعنة العقد الثامن، وصولًا إلى آراء المشعوذين وأصحاب النبوءات، بدءًا من نوستراداموس وفانجا وصولًا إلى ليلى عبد اللطيف وميشيل حايك، وقد وصلت إلى يقين بأن الجميع لديه ذات الرؤية: إسرائيل إلى زوال.
ولن أخوض في تفصيل قناعتي في هذه السردية، فيكفي متابعة الحراك العالمي، والجيل الجديد الذي سيقود الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وغيرها من البلدان، كيف تغيرت نظرته تجاه دولة الاحتلال، وكيف بات طلاب الجامعات وغيرهم ينتفضون لأجل إيقاف قتل الفلسطينيين وتجويعهم، كيف لهم أن يتعاملوا في أهم لحظات حياتهم بإيصال رسالة التضامن مع الإنسانية في غزة، في الوقت الذي يشخر فيه العربي غارقًا في النوم، لا يعرف ماذا يجري حوله، أو يهتم لقتل أخيه العربي، أو يهتم حتى لتصريحات رئيس وزراء دولة الاحتلال من عمله الحثيث على تحقيق نبوءة مشروع دولة “إسرائيل” الكبرى، التي سيدفع ثمنها العربي النائم.
إن المعضلة الكبيرة التي يعيشها الغزي اليوم، هي محاولة الاحتلال السيطرة على مدينة غزة، واحتلالها بقوة النيران والصواريخ والقذائف، والمعضلة الأكبر أن مدن الشمال مدمرة ومحاصرة، لا يمكن الهرب إليها كما فعلنا بداية حرب الإبادة. لذلك فإن فكرة النزوح نحو منطقة الوسطى أو جنوب قطاع غزة أمر مخيف، بل مخيف جدًا، إذ كيف يمكن للواحد منا أن يخرج من خيمته التي استقر فيها، أو أن يترك ما تبقى من بيته كي يخرج إلى مكان لا يوجد فيه أي مقومات للحياة، وعليه أن يمشي مسافة تزيد على ثلاثة وعشرين كيلو مترًا سيرًا على الأقدام، بينما لا يوجد أي وسيلة نقل، مع تدمير السيارات والباصات والشاحنات، حتى عربات النقل التي تجرها الحيوانات لم تعد موجودة بعد نفوق تلك الدواب بسبب التجويع الممنهج الذي تقوده دولة الاحتلال بمباركة أميركية، وعليه أن يحمل معه كل أثاث بيته وأغراضاً أخرى، بدءًا من الطعام وجالونات المياه، وصولًا إلى الفراش والأغطية، ثم ألواح الطاقة الشمسية والبطارية، في ظل الحر الشديد، وبالتأكيد سيعمد الاحتلال إلى ضرب القذائف على النازحين كي يقتل أكبر عدد منهم، في ظل الصمت الدولي المريع، وأمام استمراء حالة القتل العمد، الممنهج في كل ردهة من الأراضي الفلسطينية.
وللقارئ أن يتخيل: ماذا ستفعل إن طُلب منك الخروج من بيتك عنوة، تحت تهديد السلاح، للذهاب إلى مكان بعيد جدًا، وعليك حمل أغراضك التي في بيتك، وإلا فإنك ستموت عطشًا وجوعًا؟! ورسالتي للقارئ العربي الذي يعز علينا وصوله إلى حالة غير مسبوقة من التيه والعجز والبلادة: إن ما يجري في غزة اليوم، قد يكون المشهد الأول من مسلسل التهجير الذي تسعى دولة الاحتلال إلى تحقيقه بمساعدة الولايات المتحدة الأميركية وبعض البلدان الغربية، لأجل تحقيق نبوءة المجرم نتنياهو وحكومته المتطرفة، وحينها سيكون العربي هو الحلقة الثانية من مسلسل الدم الذي يمكن أن ينتهي بانتصار الحق، عندما يستيقظ الجسد العربي المريض.