ليس هناك تفسير منطقي على الإطلاق للصمت العربي المطبق تجاه الإجرام اليومي الذي تمارسه “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني على مدى عامين متواصلين تقريبًا. لقد تجاوز العدوان حدوده المألوفة حتى في أشد الحروب وحشية، ومع ذلك لم يزل الشارع العربي مكبّلاً، والأنظمة غارقة في بيانات باهتة أو تحركات بروتوكولية لا ترقى حتى إلى الحد الأدنى من الواجب الأخلاقي. فإذا كان كل ما رأيناه ولا نزال نراه – من دماء، وأشلاء، ودمار، وأطفال يخرجون من تحت الركام – لم يحرك ساكناً فيهم، فمتى يغضبون؟
حتى لو افترضنا أن هؤلاء القادة بلا دين، فإن الفطرة الإنسانية وحدها تكفي لتحريك البعض لوقف هذا الإجرام. لكن يبدو – والله أعلم – أنهم وصلوا إلى مرحلة من انعدام المشاعر الإنسانية، وهي حالة انحطاط أخلاقي تنذر بهلاك جماعي لهم ولكل من يقبل بهم ويصمت على جمودهم. في تاريخ الأمم، حين تُمحق القيم وتصبح الأرواح مجرد أرقام في نشرات الأخبار، فإن ذلك يكون إيذاناً بسقوط الحضارات وهلاك أمم بأكملها.
المعروف أن الإنسان قد يتألم إذا شاهد طفلاً يبكي حتى لو كان من أسرة عدوه، فالطفولة تملك تأثيراً خارقاً ينفذ إلى القلوب ويحيي ما مات منها. وقد رأينا في غزة ما لا يُحصى من مشاهد الإجرام بحق الأطفال، مشاهد لها أن تحرك الصخر وتُبكي الوحوش، فكيف بالقلوب التي يُفترض أنها من لحم ودم؟!
والأدهى أن هؤلاء الأطفال ليسوا مجهولي الهوية بالنسبة لنا، بل هم “منا وفينا”، تربطنا بهم روابط الدين والنسب واللغة والتاريخ المشترك. ومع ذلك، تُترك براءتهم تُسحق تحت جنازير الدبابات وصواريخ الطائرات وكأن الأمر لا يعنينا.
الإسلام جاء لينصر المستضعفين في كل بقاع الأرض، مهما كانت ديانتهم أو جنسهم أو لونهم، لكنه جاء أولاً لينصر من هم الأقرب إلينا نسباً وديناً وجواراً. ما يحدث اليوم يكشف أن كثيراً من العرب قد كفروا بالدين قبل أن يكفروا بمشاعر الإنسانية كلها. صارت النصوص الشرعية التي تحض على نصرة المظلومين مجرد شعارات تُرفع في المناسبات، بينما الواقع يقول إن المصالح الضيقة والولاءات الأجنبية هي التي تحدد البوصلة.
الكارثة الأطم هي صمت الشعوب وموت الضمائر الجماعي، فهل نجحت الأنظمة في إسكاتها بالقمع وكتم الأصوات، وإغراق الناس في أزمات معيشية طاحنة، حتى يتسنى للحكام أن يسوقوا الصمت أو الانحياز العملي للمعتدي، بحجة الحفاظ على “الاستقرار” أو “المصالح الوطنية”، وكأن دماء الأطفال ليست جزءاً من هذه المصالح؟
ليعلم العالم العربي، والشعوب بالذات، أن كل أزماتها مصطنعة حتى تغرق في أزماتها ولا تعد تهتم بقضاياها القومية والمصيرية، ولكن القبول بهذه الوضعية لا يحل أزماتها تلك بل يثبت للعدو أنها الأنسب لإسكات الشعوب فيتمادى في إسكاتها بالمزيد من هذه الأزمات الطاحنة، ولو أن الشعوب العربية انتفضت في وجه العدو الصهيوني والأنظمة العميلة لتحولت أزماتها الداخلية إلى قضايا ثانوية لا يكترث لها إلا الرعاع من القوم، ولكنها هانت ومن يهن يسهل الهوان عليه، كما في البيت العربي الشهير.
إننا أمام انتحار أخلاقي للأمة، لأن فقدان الإحساس بالآخرين وفقدان القدرة على الغضب من الظلم هو أول الطريق نحو الفناء. قد لا يسقط العرب جميعاً دفعة واحدة، لكنهم يسيرون بخطى ثابتة نحو هوة بلا قاع، حيث لا مكان للكرامة ولا الضمير الإنساني، وهي الحالة التي يكابدونها منذ اليوم، والقادم أدهى وأمر.