هل سيتحرّك المجتمع الدولي بما يليق بحجم الكارثة الموجودة والجريمة المستمرّة، أم أنّ غزة ستترك لتواجه مصيرها وحدها ويبقى الضمير العالمي صامتاً أو ميتاً لا يبالي؟
إعلان الأمم المتحدة رسمياً دخول قطاع غزة في مرحلة المجاعة استناداً إلى معايير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي ليس مجرّد أرقام أو تقارير عابرة أو وصف لحالة إنسانية صعبة، بل نتيجة واقع حصار مشدّد مفروض منذ سنوات واشتدّت حلقاته في الأشهر الستة الأخيرة تخلّلتها مشاهد تقشعر لها الأبدان وهياكل عظمية رحلت جوعاً وآخرون ينتظرون مصيرهم.
الحال في قطاع غزة يختصر المشهد، أطفال ينامون الليالي الطويلة بلا طعام أو غذاء أو دواء فهو ما زال ممنوعاً، أما المرضى فمحرومون من العلاج أو السفر إلى الخارج لتلقّي العلاج، تلك صورة مصغّرة من جريمة إنسانية ترتكب أمام صمت مطبق من العالم بأسره، فيما أصبح جيل كامل مهدّد بالفناء نتيجة هذا الحصار.
الاعتراف الدولي الأممي يأتي ليسجّل موقفاً تاريخياً أنّ قطاع غزة يعيش لحظة مجاعة كارثية عنوانها القتل والجوع والعطش والموت البطيء، ومن يعيش في غزة أو يطّلع على واقعها عن قرب يشاهد المجاعة على حقيقتها، فالمجاعة لم تعد مجرّد فرقعات إعلامية كما يدّعي البعض بل واقع موثّق بالأرقام والدلائل، وهذا الحصار الذي فرض على قطاع غزة يعدّ ساحة اختبار للضمير العالمي الإنساني.
وفق توصيف وتعريف الأمم المتحدة لظاهرة المجاعة فإنها حصرتها في مؤشّرات بعينها، وتمثّلت بثلاثة مؤشّرات، الأول أن تعجز أكثر من خمس الأسر الفلسطينية عن الحصول على الحد الأدنى من الغذاء والدواء، أما الثاني فتوقّف على ظاهرة سوء التغذية المنتشرة في قطاع غزة وتحديداً الأطفال في غزة، فيما جاء المؤشّر الثالث والذي ركّز على عدد الوفيات من جرّاء هذا الحصار وحدّده بنسبة وفاة مواطنين اثنين لكلّ عشرة آلاف مواطن يومياً بسبب الجوع أو الأمراض المرتبطة به.
المؤشّرات الثلاثة التي حدّدتها الأمم المتحدة جميعها تحقّقت بفعل الحصار واقعاً ملموساً في قطاع غزة وتحديداً خلال الأشهر القليلة الماضية، وهذا ما دفع الأمم المتحدة إلى الإعلان الرسمي أنّ قطاع غزة منطقة تسودها المجاعة الحقيقية، وقد شكّل الإعلان الرسمي هذا اختباراً حقيقياً للمجتمع الدولي أمام مسؤوليات كبيرة لا تحتمل التأخير أو التأجيل.
من يدقّق في الأرقام التي رافقت الإعلان الأممي يكشف هول الكارثة الموجودة في قطاع غزة بسبب المجاعة، إذ أشارت التقارير إلى أنّ ما يقارب نصف مليون مواطن في قطاع غزة باتوا يواجهون ظروفاً كارثية على الصعيد الإنساني تحديداً، وهذا العدد وفق التقارير الرسمية مرشّح للزيادة نتيجة الوضع الإنساني الصعب في قطاع غزة.
الملاحظ في التقرير أنه خلال شهر واحد فقط مضى في غزة سجّلت 12 ألف حالة سوء تغذية حادة بين الأطفال، وهو أعلى رقم يسجّل على الإطلاق، ولكنّ الأخطر في التقرير المنشور في هذا السياق أنه يشير بشكل صريح إلى أنّ الرقم مرشّح إلى الارتفاع ليصل إلى 32 ألف طفل ومعهم 55 ألف امرأة حامل خلال الأشهر المقبلة، يعانون من سوء التغذية وهناك خطر يتهدّد حياتهم، وهذه الأرقام تعكس جريمة إنسانية مركّبة تستهدف الجيل الفلسطيني بحدّ ذاته.
رغم فظاعة الأرقام المتداولة في التقرير، تكمن الجريمة في أنّ هذه الأرقام هي نتيجة مباشرة لسياسة حصار إسرائيلي مفروض، وهذه الحصار يعدّ شكلاً من أشكال العدوان المستمر على الشعب الفلسطيني، وبشكل أدقّ نتيجة حرب إبادة جماعية ومستمرة منذ سنة وأكثر من عشرة شهور دمّرت فيها البنية التحتية لقطاع غزة والأراضي الزراعية التي دمّرت بنسبة 98% وفق تقارير رسمية متخصصة صادرة عن وزارة الزراعة الفلسطينية.
هذا إضافة إلى انعدام كلّ مظاهر الحياة من مخابز ومصانع ومصالح تجارية إلى جانب أزمات الكهرباء والماء التي تشكّل مرتكزاً مهماً للمواطن الفلسطيني في قطاع غزة، حتى باتت غزة بفعل هذا الحصار بيئة طاردة للحياة بفعل السياسة الإسرائيلية، وكلّ هذه العوامل التي أفرزتها حرب الإبادة المستمرة جعلت من الجوع سلاحاً في الحرب وتحوّل المدنيون الفلسطينيون وعلى رأسهم الأطفال والنساء إلى وقود لهذه الإبادة.
الردود الدولية التي جاءت إزاء القرار الأممي الذي وصف قطاع غزة بالمنطقة الكارثية من جرّاء انتشار المجاعة طالبت بضرورة فتح ممرات إنسانية عاجلة وآمنة والسماح بتدفّق الغذاء والدواء بلا قيود إسرائيلية، لكنّ هذه المطالب اصطدمت بقرارات إسرائيلية رافضة أو قيود مشدّدة، فيما انقسم المجتمع الدولي ما بين موقف صمت مريب على جريمة إنسانية واضحة المعالم، وأخرى وجّهت انتقادات صارخة وصفت ما يجري في قطاع غزة بأنه جريمة ضدّ الإنسانية، أما حقوقياً فقد ذهبت تلك المؤسسات الدولية للتأكيد أنّ ما يجري هو استخدام الجوع كأداة ضمن أدوات جرائم حرب الإبادة والتجويع في القانون الدولي.
ثمّة بعد آخر جدّ خطير يكمن في الانعكاسات المستقبلية لجريمة التجويع التي تجري في غزة، هو التحذيرات التي أطلقها التقرير الأممي الصادر في هذا الصدد، خاصة تحذيرات اتساع رقعة المجاعة في أماكن أخرى في قطاع غزة ما يعني وقتها أنّ ثلث قطاع غزة سيكون مهدّداً خلال فترة وجيزة في ظلّ تدهور الواقع الصحي وانقطاع الأدوية ونفاد كمياتها من الصيدليات والمراكز الصحية والطبية المنتشرة في محافظات قطاع غزة، ما يعني في الاتجاه المقابل انتشار أنواع كثيرة من الأمراض، وبهذا المشهد تصبح المجاعة ليست مجرّد أزمة غذاء بل أزمة إنسانية مركّبة تبدأ بانعدام الغذاء مروراً بانهيار الواقع الصحي والنزوح الجماعي وانعدام الأمل في حياة تليق بالإنسان الفلسطيني.
إعلان المجاعة في غزة يمثّل علامة فارقة في التاريخ الإنساني، وما صدر ليس تقريراً مغذّى بأرقام فقط، بل صرخة في وجه العالم بأسره، عالم صمت على القتل والإبادة والتطهير العرقي ويصمت الآن على جريمة التجويع، صرخة تحذّر من أنّ قطاع غزة يتحوّل إلى سابقة لها تداعيات خطيرة وكبيرة حال استمرت سياسة الحصار والتجويع أداة مشروعة في الحرب الدائرة في قطاع غزة، في وقت باتت فيه النساء والأطفال يموتون جوعاً وقتلاً والأداة إسرائيلية واحدة.
السؤال الأهم هنا، هل سيتحرّك المجتمع الدولي بما يليق بحجم الكارثة الموجودة والجريمة المستمرّة، أم أنّ غزة ستترك لتواجه مصيرها وحدها ويبقى الضمير العالمي صامتاً أو ميتاً لا يبالي؟ في تقديري المسؤولية والواجب الأخلاقي يفرضان على العالم أن يتحرّك ولا يبقى منقسماً أو صامتاً أو حتى يكتفي ببيانات الشجب والاستنكار والإدانة، والتقدّم تجاه التحرّك العملي بأفعال ملموسة توقف الجريمة وتدفع باتجاه وقف الإبادة المستمرة والتطهير العرقي بلا قيود إسرائيلية، فالواقع في قطاع غزة لم يعد يحتمل الانتظار أكثر، فيما باتت أرواح الإنسان الفلسطيني في خطر حقيقي بل يتهدّده الموت في أيّ لحظة، وهذا بحدّ ذاته امتحان قاسٍ لإنسانية القرن الحادي والعشرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شرحبيل الغريب