المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    كان ينقص أن يوزّع “قبعات الكاوبوي” على الصحافيين!

    في مشهد لا يليق إلّا بأفلام الويسترن الرخيصة، دخل...

    كمين محكم للقسام يوقع قتلى وجرحى بصفوف العدو الصهيوني في بيت حانون

    نشرت كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة...

    الأرض لله وحده

    الأرض في التصور القرآني ليست ملكاً لأحد من الخلق، بل هي لله وحده، خلقها وسخرها لعباده جميعاً، وجعلها مجالاً للاستخلاف والعبادة والعمران. وهذا ما يقرره القرآن الكريم بوضوح حين يقول:
    ﴿قُلْ لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [المؤمنون: 84-85]، ويقول سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [المائدة: 17]. فالأرض لله وحده، وهو الذي يستخلف عباده عليها، كما جاء في قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61].

    غير أن اللافت في النص القرآني، أنه حين تُذكر الأرض منسوبةً إلى الله تأتي دائماً في سياق العدل والرحمة والتذكير بالحق، بينما إذا نسبت إلى المتحدث أو المخاطب من البشر، كأن يقال “أرضنا” أو “أرضكم”، فإن السياق يأخذ طابعاً سلبياً يعبّر عن نزعة الاستحواذ والهيمنة وصدّ الناس عن دين الله.

    ففرعون على سبيل المثال، حين عجز عن مواجهة حجة موسى بالبرهان، لجأ إلى إثارة العصبية القومية، محذراً قومه مما سماه تهديداً لوجودهم على أرضهم: ﴿إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ [طه: 63]. فجعل الأرض مِلكاً قومياً مغلقاً، واستعملها ذريعة لتأليب الناس على رسالة الحق.

    والصورة نفسها تتكرر في مواقف أخرى، إذ يقول الله تعالى عن الأمم الكافرة: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [إبراهيم: 13]. إنهم يربطون بين الانتماء للأرض والانتماء للملة، ويجعلون الخروج من ملتهم سبباً للخروج من أرضهم، وكأن الأرض ملكية سياسية أو قومية ضيقة، وليست ميداناً لعبادة الله للجميع.

    ومن هنا نفهم أن نسبة الأرض إلى البشر في القرآن ترتبط دوماً بالاستعباد والإقصاء، بينما نسبتها إلى الله ترتبط بالعدل والاستخلاف والتسخير. وإذا كان الإنسان يدرك أن الأرض لله، فلن يجرؤ على أن يجعلها حكراً على قوم أو جماعة، ولن يستعملها وسيلة للتهديد أو الطرد، بل سيراها فضاءً مشتركاً لتحقيق العدل وإقامة الحق.

    وهذا يكشف بوضوح أن الانحرافات القائمة على القومية أو الوطنية أو العصبيات المناطقية، إنما هي صور حديثة لتلك الذرائع التي رفعها فرعون ومن قبله الأقوام المكذبون للرسل. وكلها وسائل لتكريس الطغيان، وحجب دعوة الله عن الناس تحت شعارات أرضية لا تصمد أمام حقيقة التوحيد.

    أما حين تظل الأرض في وعي الأمة مرتبطة بالله، فإنها تتحول إلى أمانة كبرى، ووسيلة للتعاون لا للصراع، وللإعمار لا للإفساد. ولهذا قال تعالى مؤكداً هذه الحقيقة الجامعة: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [النور: 42].

    وفي واقعنا المعاصر حدثت الكثير من الكوارث بعد أن رفع البعض شعارات سياسية مرتبطة بالأرض، ولعل أبرزها في واقعنا اليمني ما حدث في المحافظات الجنوبية منذ العام 2015، فقد شجعت دول العدوان الصراع المناطقي بين أبناء الشمال والجنوب فاتجه سكان المحافظات المحتلة إلى طرد الشماليين ومصادرة ممتلكاتهم بدعوٍ مشابهة، وقد بلغ الأمر إلى حد القتل في أحيان كثيرة ولكن لا إحصائيات رسمية تكشف حكم الكارثة حتى اليوم.

    وفي دول الخليج، خاصة السعودية، رفع الحكام شعارات مشابهة لتلك التي أطلقها فرعون وملائه فتحولت الأرض إلى ملك خاص بالبعض فيما الآخرون ممن جاءوا من مناطق أخرى، مجرد عبيد لديهم، وهؤلاء الحكام يغالبون الله على طريقة فرعون، ويضيفون إلى أنفسهم صفات إلهية مقدسة لا تنبغي لأحدٍ من خلقه، ولعل شعارات مثل “السعودية” وغيرها ترقى إلى جرائم بحق الإنسانية خاصة إذا كانت قوانين البلاد مع الوافدين تختلف عن تلك الخاصة بسكانها الأوائل.

    ومن الواجب علينا كمسلمين أن نكون أول من يناهض هذه الدعوات الكفرية لأسباب كثيرة، فهي ضد الإسلام وتدعو إلى الفتنة وتؤجج الصراعات البينية التي حرمها الدين الحنيف، وما كان لمثل هذه الدعوات أن تتفشى في العالم كله لولا الثقافات الغربية التي هدمت الأسس الأخلاقية للمجتمع ومهدت لصراعات وكوارث منها القضية الفلسطينية التي ضاعت بسبب انشغال المسلمين بقضاياهم الخاصة وبعد أن لفضوا من قواميسهم المسؤولية الدينية تجاه بعضهم البعض.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

    محمد محسن الجوهري

    spot_imgspot_img