معركة واحدة تتوزع على ساحات ثلاث، من فلسطين، حيث العدوان المتمادي منذ عامين، مروراً بالعراق وليس انتهاء بلبنان.. ما مصير السلاح؟
تحتدم المعركة على سلاح المقاومة والفصائل المساندة لها، ويشتد أوارها… معركة واحدة تتوزع على ساحات ثلاث، من فلسطين، حيث العدوان المتمادي منذ عامين، مروراً بالعراق وليس انتهاء بلبنان… اليمن ليس بعيداً عن نيران هذه المعارك، بيد أن الجغرافيا والسياقات السياسية والاجتماعية (المحلية) تضعه في مكان مختلف.
من نافل القول، أن هذه المعركة تندلع في ظروف محلية وإقليمية، أقل ملاءمة، حتى لا نقول، غير مواتية، لقوى المقاومة والفصائل المحسوبة عليها والمساندة لها، بعد زلزال العامين الفائتين، الذي ما زالت ضرباته الارتدادية تعصف بالإقليم، وتستحدث تبدلات وتغيرات جوهرية في توازنات القوى ومواقف الأطراف وتحالفاتها، وسط اعتقاد جازم، بأن الفصل الأخطر والأخير، لم يأتِ بعد، وأن “النهايات” ما زالت مفتوحة.
السلاح الفلسطيني
تتمحور الاستراتيجية الأميركية لغزة والضفة، إن جاز لنا أن نتحدث عن استراتيجية أميركية خالصة، بعد أن برهنت تجربة الأعوام والعقود الفائتة، وبالذات إبّان حرب السنتين على غزة، بأن واشنطن بإداراتها المتعاقبة، لا تفعل شيئاً سوى “ترجمة” استراتيجيات اليمين الصهيوني الفاشي، وتجعل منها “رؤية” لهذا الرئيس وطموحاً لذاك… نقول، تتمحور هذه الاستراتيجية حول “تدمير” حماس، وإخراجها من مسرح الجغرافيا والسياسة الفلسطينية، نزع سلاحها وسلاح غزة، وتلكم في صميم “المبادئ” الخمسة التي أقرها “الكابينت” ويترجمها جيش الاحتلال برغم خلافه واختلافه مع المستوى السياسي، وتدعمها إدارة ترامب، سراً وعلانية.
لم يشفع لهذا السلاح، إنه وجَه أعنف ضربة لعصب الكيان بمستوياته السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية… لم يشفع لأصحابه، أنهم ألحقوا أكبر خسارة تتلقاها إسرائيل في حروبها مع العرب، منذ أن كان الصراع العربي-الإسرائيلي… لم يشفع له ولهم، أن عشرات الآلاف من الجنود والضباط باتوا “خارج الخدمة”، قتلى وجرحى ومعاقين و”مهسهسين” يتلقون علاجات ما بعد الصدمة وما قبلها… كل هذا لم يشفع للمقاومة الفلسطينية، بل على النقيض من ذلك، إذ صار “سبباً موجباً” على ما يبدو، لاستعدائها على نحو أكثر فداحة وفجوراً، من قبل الشقيق في الوطن، والأخ في العروبة والإسلام.
بكل خسّة ونذالة، يُقدم المهزومون والمتخاذلون، على صوغ روايتهم المبتذلة لتمسك المقاومة الفلسطينية بسلاحها، وينافحون عنها… يختزلون المسألة ببحث أناني عن مصلحة ضيقة، أو عن استمساك بمقاعد السلطة… ويسارعون إلى ممارسة كل أشكال الضغط، السياسي والمعنوي والمادي، لحشر المقاومة في الزاوية الضيقة… فاقدو الشرف، لا تهمهم حقيقة أن هذا السلاح، هو من حفظ شرف الأمة، أو ما تبقي منه… يجهد الثرثارون منهم في إبراز صور الكارثة في غزة، ويبذلون كل جهدهم لإخفاء وطمس صور البطولة، مع أن حكاية غزة، لا تُروى مكتملةً، من دون اقتران الصورتين إحداهما بالأخرى… الأولى، ناجمة عن توحش فاشي، لم يجد من بين العرب والمسلمين من يردعه، في ظل انخراط أميركي فجّ ومباشر في هذه الحرب، وتواطؤ غربي منقطع النظير… فيما الثانية، ترسمها قبضات المقاتلين الذين تحولوا إلى كوابيس تقض مضاجع “الجيش الذي يقهر”، وتدفعه إلى التردد في كل خطوة يخطوها في الشريط الضيق الذي يحمل اسم “غزة”، بينما عواصم العرب مستباحة، والعربدة الصهيونية تطال خصوم “إسرائيل” وأصدقائها من “عرب التطبيع والسلام”.
يتناسى هؤلاء، أن قبول المقاومة الفلسطينية تسليم سلاحها، هو استسلام صُراح، يقضي على الصور الملهمة لأجيال مقبلة من الفلسطينيين… هم لا يريدون لصورة المقاتل الفلسطيني الذي يطارد “الميركافا” عاري القدمين، أن تبقى عالقة في أذهان جيل قادم من الفلسطينيين، يريدون أن يُحِلّوا محلها صورة المقاتلين العراة رافعين الرايات البيضاء، حتى لا تقوم قائمة، لا اليوم، ولا مستقبلاً، للعمل الوطني المقاوم… هم لا يريدون لجذوة المقاومة أن تبقى مُتّقدة في صدور الفلسطينيين، فقد سبق لهم أن اتخذوا قرارهم المرذول باعتبار “السلام خياراً استراتيجياً وحيداً” أمام العرب، وهو يسارعون، ومعهم قسم من “فلسطينيي – أوسلو”، للتكيف مع مخرجات الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية، حتى وإن جاء على شكل “إمارة” في رام الله والبيرة.
معركة السلاح في غزة، لا تختصر نتائج حرب السنتين، أو ترسم ملامح ما يسمى “اليوم التالي”… معركة السلاح الفلسطيني ترسم أفق النضال الفلسطيني في المستقبل، وتصوغ ملامح مراحل مقبلة من كفاح الفلسطينيين ضد الفاشية والأبارتيد والإبادة والتطهير العرقي، في الطريق إلى الحرية والاستقلال.
السلاح اللبناني
في ظروف غير مواتية، يخوض حزب الله ومن تبقى من مناصرين ومؤيدين له من خارج بيئة المقاومة الاجتماعية، معركة السلاح، تسليمه للدولة أو الاحتفاظ به… رفع الحزب صوته عالياً في الأسابيع الأخيرة، ووصف المعركة على السلاح بـ”الكربلائية”… وهو بذلك يلفت إلى أن العدو المتربص جنوباً، لم يفٍ بأي تعهد أو التزام، ويواصل حرب التصفيات والتعديات، يوسع احتلاله بدل أن يشرع في إزالته، يحتفظ بالأسرى ويتهدد لبنان والمقاومة، بجولة حرب جديدة تحرق ما تبقى من الأخضر واليابس.
فريق من اللبنانيين يستعجل نزع السلاح، جرياً على مواقف وسياسات تعود لعقود مضت، لسنوات الحرب الأهلية والاستقواء بالإسرائيلي (وأحياناً بالسوري) لضرب المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية… السلطة في تناولها لمسألة السلاح، مرت بمرحلتين، الأولى، وتميزت بالتماهي مع طروحات “النزع الفوري وغير المشروط للسلاح”، على قاعدة أنه يتعين على لبنان أن “يرمي بياضه” أولاً، وفقاً للتعبير الشعبي الدارج… أما المرحلة الثانية، فتميزت باعتماد سياسة “الخطوة مقابل خطوة”… هذه النقلة في خطاب المستوى الرسمي، ما كانت لتتم، لولا مواقف حزب الله الأخيرة، وهي وإن شكلت “دعسة ناقصة” في الخطاب الرسمي، إلا أنها خطوة إلى الأمام مهما جادل البعض واختلف، في تقدير حجمها وأهميتها.
ثلاثة خيارات أمام حزب الله، تقابلها خيارات ثلاثة أمام “إسرائيل” في النظر إلى مسألة السلاح… بالنسبة للحزب، فإنه يقف بين خيارين أحلاهما مُرّ، إن هو سلّم سلاحه قبل تحقيق أهدافه، يكون أمام قصة “انتحار معلن”، وسيفقد الحزب صورته وهويته، وإن هو ظل على تمسكه به، سيكون قد جازف بجولة جديدة من الحرب مع “إسرائيل”، لا مع الجيش اللبناني، كما يروّج بعض الجهات في لبنان… ولتفادي كأس المرارة، يسعى الحزب في شق الطريق أمام “خيار ثالث”: الضغط لدفع الدولة وحلفائها لحث واشنطن وتل أبيب على الاستجابة لمطالب الدولة اللبنانية من جهة، الضغط من أجل حوار وطني ينتهي إلى “استراتيجية وطنية للأمن والدفاع” من جهة ثانية، والتنبيه إلى الأخطار الكامنة على الحدود الشرقية والشمالية، إن لم يكن من المؤسسة الرسمية السورية، فمن ميليشيات متفلّتة، عاثت قتلاً وتدميراً في الساحل والسويداء من جهة ثالثة.
أما خيارات “إسرائيل” فتتلخص في: (1) الاستمرار في تكتيك شنّ “معارك بين الحروب”، كما تفعل اليوم، وثمة “رضى” في المؤسسة العسكرية عن نتائج هذا التكتيك غير المكلف … (2) العودة إلى الحرب واسعة النطاق برياً وجوياً وبحرياً، وهذا أمر يبدو مستبعداً فيما جيش الاحتلال على مشارف “عربات جدعون 2” في غزة… (3) التماشي مع فكرة “الخطوة مقابل خطوة”، إن صدق توم باراك في وعوده للبنانيين، وهو أمر مشكوك فيه ابتداءً، وإن توفرت الإرادة لدى الإدارة الأميركية وبعض العرب، في مساعدة لبنان على تفادي الأصعب.
الدولة اللبنانية في المقابل، لديها ثلاثة خيارات، ليس من بينها خيار واحد سهل… الأول: العودة عن قرارات الحكومة ومهلها الزمنية لترجمة “حصرية السلاح” كما يطالب حزب الله، وهو أمر إن حصل، سيكون هزيمة للحكومة والعهد، وسيضع لبنان في مأزق مع حلفائه العرب والدوليين، كما سيخلق مشكلة كبيرة مع فريق آخر من اللبنانيين… والثاني؛ تنفيذ القرار بالقوة، وهو خيار مستبعد في السياق اللبناني، فليس ثمة ضمان من أي نوع، بأن المعركة ستنتهي بحصرية السلاح، بل قد تتوسع ظاهرة السلاح خارج كنف الدولة، لتشمل كيانات ومكونات لبنانية أخرى، وقد يواجه الجيش اللبناني مصاعب وتحديات في حفظ وحدته، دع عنك وحدة لبنان، ومصير الجيش في سنيّ الحرب الأهلية يجب أن يظل حاضراً في “العقول الساخنة”…والثالث، مجاراة الحزب في الدعوة إلى الحوار والتوافق على استراتيجية وطنية للأمن والدفاع، وممارسة ضغط فعّال على “إسرائيل” عبر واشنطن وبروكسل وباريس، من أجل الوفاء بالتزاماتها، ما يعزز من صدقيتها ومكانتها، وهي تطالب ببسط السيادة وحصرية السلاح… خيارات الدولة الثلاثة، الصعبة والمعقدة، أخطر ما فيها أنها ليست “ملك يمينها وحدها”، وأن القرار بشأن أي منها، لن يصدر حصراً عن بيروت وبعبدا.
بخلاف غزة، فإن مسألة السلاح ومصائره في لبنان (والعراق)، تبدو وثيقة الارتباط بمآلات الحرب والسلم بين إيران والولايات المتحدة (واستتباعاً “إسرائيل”)، وكيف سينتهي سباق الحرب والدبلوماسية المحتدم حالياً بين الأطراف الثلاثة؟
وبخلاف غزة أيضاً، فإن مسألة سلاح الحزب، لا تعد أمراً وجودياً، طالما أن الظرف الإقليمي بات يجعل من الصعب على هذا السلاح، الاضطلاع بأدوار تتخطى البعد الوطني المرتبط بإنهاء الاحتلال واستعادة الأسرى ووقف العدوان المتمادي، المسألة في غزة أكثر “وجوديةً” مما هي عليه في لبنان …على أنه يجدر التشديد هنا، أن حزب الله وحده، يعلم ما بحوزته من عناصر قوة واقتدار، وهو وحده من يمتلك الدراية الكاملة، بقدرة هذا السلاح على استعادة وظائفه الثلاث أمام “إسرائيل”: الحماية، الردع والتحرير، وبخلاف ذلك، فإن كل ما يصدر عن بيئة الحزب أو خصومه، إنما يندرج في إطار التكهنات وربما “التفكير الرغائبي”.
هنا، أيضاً استحق التنبيه، بإن أي جولة مقبلة من المواجهة مع العدو، ولا سيما إن كانت من مستوى “حرب مفتوحة”، قد تكون آخر المعارك، ما يعني أن زمن “توجيه الرسائل” سيكون قد ولّى، وأن كسب الحرب سيكون بردع “إسرائيل” عن التمادي والاستباحة، وأن خسارتها، ستعني أن الظروف المقبلة، ستجعل من المتعذر على الحزب الوفاء بما التزم به وأكده مراراً وتكراراً، ولا سيما في الأسابيع الأخيرة.
الشيء ذاته، أو المعادلة ذاتها، تنطبق على إيران، فهي وحدها تعرف ما لديها وما ينقصها، والجولة التالية من الحرب إن اندلعت، وهي مرجحة، وربما قبل نهاية العام كما تقول تقارير وتقديرات استخبارية متعددة، إما أن تنتهي بردع “إسرائيل” كلياً عن غطرستها وعربدتها، وإلا ستفتح الباب أمام مرحلة تدخل فيها إيران عصر “تغيير النظام”، لا “تغيير السياسات” فحسب، وثمة تطورات داخلية في إيران، تدفع على الاعتقاد بوجود رهانات إسرائيلية غربية، على هذا “العامل”… مرحلة “توجيه الرسائل” والتصريح بوجود “أسلحة لم تُستخدم بعد”، انتهت مفاعيلها، منذ أن استباحت “إسرائيل” الأجواء الإيرانية، وسجلت اختراقات أمنية في العمق الإيراني… أُغلق هذا الفصل، ليُفتح فصلٌ جديد.
السلاح العراقي
هو الأقل أهمية من منظور الصراع العربي – الإسرائيلي، بيد أنه بالغ الأهمية من منظور الصراع في العراق وعليه، وتحديداً بين واشنطن وطهران… ويتعين التمييز بين سلاح الفصائل التي انخرطت في الإسناد وسلاح الحشد الشعبي، فليست كل فصائل الحشد، انخرطت في معركة الإسناد، ومع ذلك، فإن واشنطن لا تلحظ ذلك التمايز، أو بالأحرى، لا تعيره وزناً، وتضغط لقطع رأس الحشد بمختلف فصائله.
المعركة مع سلاح الإسناد، تبدو الأسهل، أما مسألة مستقبل الحشد، فتبدو معركة أصعب وأشرس، تُلقي واشنطن بكل ثقلها لمنع تمرير “مشروع قانون الحشد”، وتطالب حكومة السوداني بتجسيد “حصرية السلاح”، مع أن الحشد منذ سنوات، بات قوة عسكرية رسمية تتبع القائد العام.
في حربها على السلاح والحشد، تلجأ واشنطن إلى استخدام تكتيكين: الأول؛ سلاح العقوبات والتلويح بعودة العراق إلى سنوات التسعينيات (بعد اجتياح الكويت)، زمن الحصار المحكم الذي كان مضروباً حوله، ومنعه من التصرف بعائدات نفطه… والثاني: السلاح الإسرائيلي المتفلت، وهنا تقول المصادر بأن واشنطن أبلغت العراقيين بأن “إسرائيل” ستعيد إنتاج سيناريو حربها على المقاومة اللبنانية في العراق، بما يعنيه ذلك من اغتيالات وتقطيع رؤوس واستهداف أعيان مدنية، وربما اللجوء إلى “استراتيجية الضاحية” في ضرب بغداد المجردة من الدفاعات الجوية ومن سلاح الجو، بقرار أميركي جائر، لا يخدم أحداً سوى “إسرائيل” وشهيتها العدوانية التوسعية.
الدفاع عن السلاح والفصائل والحشد، في العراق، يبدو مهمة صعبة للغاية كذلك، لا تقل صعوبة عمّا يواجه حزب الله، مع فارق ليس في مصلحة الفصائل العراقية، فإذا كانت البيئة الشيعية في لبنان، موحدة حول الحزب والثنائي، فإنها في العراق منقسمة حول هذه العناوين، وثمة مكونات عراقية أخرى، تدعم بقوة فكرة نزع السلاح وحصريته، كما تدعم فكرة إنهاء ظاهرة الحشد الشعبي.
ووفقاً لمصادر، ثمة محاولات تُبذل مع “المرجعية الأعلى” في العراق، التي كانت فتوى “الجهاد الكفائي” التي صدرت عنها، سبباً في تشكل ظاهرة الحشد، لكي تصدر فتوى أخرى، بانتفاء وظيفته، وهو الأمر الذي قد يكون حاسماً حال حصوله، وإن كانت فتوى من هذا النوع، مستبعدة في المدى المنظور، بالنظر إلى بدء الولايات المتحدة سحب قواتها من العراق، أو إعادة انتشارها صوب أربيل وإقليم كردستان، ومع بقاء تهديدات “داعش” على امتداد البادية السورية – العراقية، وفي ظل مخاوف من تأثيرات الحدث السوري على توازنات القوى داخل المشهد العراقي.
وكما الحال في لبنان، فإن مستقبل المواجهة الإيرانية – الأميركية، سيكون حاسماً لجهة تقرير مستقبل السلاح والفصائل والحشد، سلماً أم حرباً، وربما بأسرع مما هو عليه حال السلاحين الفلسطيني واللبناني، فالمسألة هنا أكثر ارتباطاً بإيران، وأقل تأثراً بمجريات الصراع العربي-الإسرائيلي كما أوضحنا من قبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عريب الرنتاوي