المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    رابطة علماء اليمن تدين جريمة إحراق القرآن وتدعو إلى رد يليق بحجم الاعتداء

    أدانت رابطة علماء اليمن بأشد العبارات الجريمة البشعة التي...

    نمر من ورق في المضيق: كيف تحاول لندن ترسيخ وجودها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ

    منذ أوائل عشرينيات القرن الحادي والعشرين، تحلم بريطانيا بمكانة...

    “إسرائيل”… من تدمير حماس إلى تسليم سلاحها!

    المفاوض الفلسطيني يقف اليوم أمام احتمالين: إما أن يكون...

    مع عبقرية الرسول العسكرية (2)

    الدفاع واجب فطري إنساني وحتى حيواني ركز السيد القائد حفظه...

    اليمن ونورُ الرسالة.. من الملك تُبّع إلى اليوم

    منذ فجر التاريخ، كان لليمن وأهله ارتباطٌ وثيقٌ بالرسالة...

    إسلام السوق… صناعة غربية لتدجين الأمة

    قبل نحو ربع قرن، نشر الباحث السويسري باتريك هايني كتابه “إسلام السوق”، حيث بشّر بظهور نمط جديد من التدين الإسلامي يُشجِّع على الفردية على حساب المجتمع والثوابت الدينية، ويقدّم صورة قابلة للتعايش مع النمط الغربي للحياة. الفكرة الأساسية التي طرحها هايني أن المسلم سيتحول إلى مستهلك مطيع ضمن النظام الرأسمالي، بدلًا من أن يكون جزءًا من أمة رسالية تحمل مشروعًا حضاريًا جامعًا.

    هذا النموذج لم يبق حبيس الكتب، بل صار واقعًا يُرى في الساحة الإسلامية إلى جانب “الإسلام التكفيري” الذي نفّر الشباب من الدين. ففي مقابل خطاب العنف والتكفير، ظهر تيار دعوي جديد يروّج لنمط هجين من التدين الممزوج بالقيم الغربية. ومن أبرز رموزه: الحبيب الجفري، عمرو خالد، وعدنان إبراهيم، وغيرهم ممن يستخدمون لغة دينية مطعّمة بمصطلحات “التنمية البشرية” و”تحقيق الذات” و”النجاح الفردي”.

    هؤلاء الدعاة يقدّمون الإسلام باعتباره مجموعة طقوس فردية – صلاة، صيام، ذكر – يمارسها الشاب دون أن يُطالب بأي مسؤولية جماعية أو تضامن مع قضايا الأمة. بل إن بعضهم ذهب أبعد من ذلك، فظهرت أصوات تدعو صراحة إلى التخلي عن القضية الفلسطينية، أو تحميل المقاومة المسؤولية بدلًا من الاحتلال. وعدنان إبراهيم مثال صارخ؛ إذ فاجأ جمهوره حين حمّل حركة حماس مسؤولية مآسي غزة، متجاهلًا حقيقة الاحتلال الصهيوني الجاثم على أرضه.

    وإذا كان ابن غزة يخذل شعبه بهذا الخطاب، فكيف بغيره من دعاة الرفاه الروحي الذين يسيرون وفق بوصلات سياسية خارجية؟ فالحبيب الجفري، على سبيل المثال، ارتبطت مواقفه بمشاريع النظام الإماراتي، حتى وصل به الأمر إلى تبرير العدوان على اليمن، واتهام كل من يعارض هذه السياسات بالخيانة، ليضع نفسه في خانة مَن باعوا رسالتهم مقابل خدمة مشاريع إقليمية ودولية على حساب دماء شعوبهم.

    ولعل ما يثبت خطورة “إسلام السوق” أنه يتقاطع تمامًا مع استراتيجية غربية أوسع. ففي الوقت الذي دعمت فيه بعض الدوائر الغربية التنظيمات التكفيرية لتشويه صورة الإسلام، دعمت دوائر أخرى خطاب التدين الفرداني لتدجين الشباب المسلم، وتحويله إلى مواطن “مطيع، مستهلك، غير مبالٍ” لا يربطه بالأمة جامع ولا بالقضايا الكبرى اهتمام. وهكذا، يصبح الإسلام عند فئة واسعة مجرّد ممارسات شخصية معزولة عن البعد الرسالي والجماعي الذي ميّز هذه الأمة عبر تاريخها.

    ومن المهم أن ندرك أن “إسلام السوق” ليس معزولًا عن “الإسلام التكفيري”، بل إنهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة، يخدمان المشروع الغربي بوسائل متباينة. فالإسلام التكفيري يقوم على الغلو والتشدد واحتكار الحق وتكفير المخالف، وهو بذلك يقدم خطابًا دمويًا عنيفًا ينفّر الشباب من الإسلام ويربطه في أذهان الناس بالإرهاب والقتل والدمار. أما “إسلام السوق” فينطلق من خطاب ناعم يدعو إلى التدين الفردي الممزوج بالقيم الغربية، ويروّج لمفاهيم مثل النجاح الشخصي وتحقيق الذات والتنمية البشرية، لكنه في الوقت نفسه يعزل الدين عن السياسة ويلغي أي بعد جماعي أو رسالي للإسلام.

    الفرق بين النموذجين أن التكفيريين يمزقون الأمة من الداخل بالصراع والاقتتال، بينما دعاة “إسلام السوق” يلغون مفهوم الأمة من الأساس، ويدفعون المسلم إلى أن يعيش مجرد فرد مستهلك بلا ارتباط بقضايا أمته ولا تحمل لمسؤولياتها. أما في ما يخص العلاقة بالغرب، فالتكفيريون يتخذونه عدوًا ظاهريًا لكنهم – من حيث لا يشعرون – يفتحون له الأبواب عبر نشر الفوضى وتمزيق المجتمعات، بينما دعاة “إسلام السوق” يتصالحون معه صراحة، ويقدّمونه كنموذج ناجز للحياة والسياسة ينبغي للمسلمين أن يقتدوا به.

    وفي النهاية، كلا التيارين يؤديان إلى النتيجة ذاتها: تفريغ الإسلام من مضمونه الرسالي وإضعاف الأمة الإسلامية وتجريدها من مقومات النهوض. فالتكفيري يبرر للغرب التدخل العسكري والأمني تحت ذريعة “محاربة الإرهاب”، وداعية “إسلام السوق” يسهّل للغرب هيمنته الثقافية والاقتصادية والسياسية عبر تدجين المسلمين وفصلهم عن هويتهم.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    محمد محسن الجوهري

    spot_imgspot_img