تتهم بعض الأنظمة العربية شعوبها أو حتى دولًا عربية وإقليمية غير معادية مثل إيران بأنها تشكل خطرًا على سيادتها الوطنية، على الرغم من أن هذه التهديدات غالبًا ما تكون وهمية أو مبالغًا فيها. تستخدم هذه الأنظمة هذا الاتهام كأداة سياسية لإلهاء الرأي العام عن المشكلات الحقيقية التي تهدد الأمة، مثل الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته الصارخة لسيادتها. ولإضفاء مزيد من المصداقية على هذه المزاعم، تبتكر قصصًا وحوادث ملفقة، وتفخّم أخطاء صغيرة لتبدو كتهديدات كبرى، في حين تُغض الطرف عن أي أمر يتعلق بالسيادة عندما يتعلق الأمر بالصهاينة.
مثال واضح ما نراه منذ عامين في غزة من إجرام صهيوني ضد مسلمين عرب، لكن الأنظمة العربية لا ترى في ذلك أي خطر حتى يصل إلى دارها، وحتى لو وصل الخطر إليها فلها الكثير من الأعذار والمبررات التي يرصدها إعلامها الرسمي، كما نرى في الأراضي السورية، فالكيان هناك يمارس الانتهاكات البرية والجوية منذ سقوط نظام الأسد فيما القيادة الجديدة مشغولة بالحديث عن الخطر الإيراني، وبنفس اللغة التي يسردها الإعلام العبري.
وفي الأردن، شهدت الفترة الماضية محاولات إسرائيلية متكررة للتدخل في شؤون الأمن والمياه على الحدود المشتركة، بما يهدد الموارد الوطنية والسيادة الإقليمية. أما مصر، فقد شهدت مرارًا حوادث اختراق المجال الجوي في سيناء، بالإضافة إلى الدور الإسرائيلي في دعم بعض الجماعات المسلحة التي تقوض الاستقرار الداخلي، رغم توقيع اتفاقية السلام بين الطرفين.
هذا الانفصام بين الخطاب والفعل ليس ظاهرة جديدة. فقد شهدت عدة دول عربية في العقود الماضية سلسلة من الانقلابات الداخلية، والحروب الأهلية، وقمع المعارضة، تحت شعارات حماية الوطن، بينما كانت السيادة الفعلية تُقوض أمام القوى الأجنبية أو أمام الاحتلال الإسرائيلي. ففي لبنان على سبيل المثال، كان التدخل الإسرائيلي في جنوب لبنان وحصار بيروت وما تلاه من أحداث خلال الثمانينيات والتسعينيات واضحًا وصريحًا، ومع ذلك لم تتخذ الأنظمة العربية خطوات فعالة لصد العدوان أو حماية المواطنين اللبنانيين من الاحتلال المباشر وغير المباشر.
حتى في الحروب العربية–الإسرائيلية، كثيرًا ما برزت هذه الظاهرة: استعداد بعض الأنظمة لتوجيه الجيوش الوطنية ضد شعوبها أو جماعات داخلية بدلاً من مواجهة العدو الخارجي. فالجيوش الوطنية أحيانًا لم تُنشأ لحماية الوطن، بل كانت أداة لقمع المعارضة الداخلية، وإخماد الحريات، والحفاظ على استقرار الحكم الفردي على حساب الكرامة الوطنية الحقيقية.
الدرس الأهم هنا أن كلمة “وطني” في قاموس بعض العرب قد صارت مرادفًا للمؤامرة، والجيوش الوطنية أداة لضرب أبناء الوطن بدل الدفاع عنهم. وهذا لا ينفي أن هناك شعوبًا عربية ترفض هذه الممارسات، وتدرك أن الخطر الأول على سيادتها لم يكن يومًا داخل الحدود، بل على حدود فلسطين المحتلة، وعلى الأرض الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، حيث تتضح المأساة اليومية للإنسان العربي الذي يعيش تحت القصف والتهجير والتمييز.
ختامًا، أي نقاش عن “السيادة الوطنية” في العالم العربي لا يمكن أن يكون حقيقيًا إلا إذا بدأ بالاعتراف بالخطر الأصيل الذي تمثله إسرائيل على الأمة العربية، بدل الانشغال بالاتهامات الداخلية المتكررة. فبدون مواجهة هذا الواقع، تظل السيادة الوطنية مجرد شعار بلا مضمون، و”الوطنية” مجرد واجهة لتبرير القمع والسيطرة على الشعوب.