امتدّ نضال الشعب الفلسطيني على مدى أكثر من قرن راكم خلاله العديد من الخبرات والإنجازات على المستويين العملي من خلال عشرات المعارك، والنظري من خلال تراكم الوعي بطبيعة الصراع.
عندما قمنا بتشخيص طبيعة المرحلة التي تخوضها شعوبنا على أنها مرحلة تحرّر وطني، كون بلادنا ما زالت شبه مستعمرة، وصلنا إلى نتيجة مفادها أنّ معركتنا ضدّ الاستعمار لا يمكن خوضها إلّا من خلال أوسع جبهة وطنية شعبية، تجمع كلّ القوى السياسية والاجتماعية التي تتناقض مصالحها مع مصالح الاستعمار. هذه الجبهة ستضمّ قوى برجوازية وأخرى ليبرالية، إضافة إلى القوى الثورية الحقيقية والجذرية.
هذا التشخيص الدقيق لطبيعة الصراع من وجهة نظر السياسة، يجب ألّا يغفل الجوهر الحقيقي للصراع، من أنه صراع طبقي بين الشعوب المقهورة والمنهوبة، والاستعمار بصفته ممثّلاً للرأسمالية القاتلة والناهبة لثروات الأمم.
بعبارة أخرى، يجب ألّا يتحوّل فهمنا لطبيعة مرحلة التحرّر الوطني ومهماتها إلى نظرة ذاتية أحادية الجانب تعزل صراعنا مع الاستعمار عن سياق الصراع العالمي بين الشعوب المقهورة في كلّ مكان في العالم وهذا الاستعمار. إنّ العلاقة الأبدية والمطلقة بين المستعمرين والشعوب المقهورة هي علاقة تناقض، وهذا هو التناقض الرئيس الذي إذا أمسكنا بزمامه استطعنا حلّ باقي التناقضات وبسرعة. هذا الصراع العالمي هو الحتمية التاريخية الوحيدة وأيّ محاولة للهروب منه أو أخذ موقف الحياد ليست سوى وهم.
ما علاقة هذه المقدّمة بالسابع من أكتوبر؟
نختلف على من اتخذ قرار الهجوم يوم السابع من أكتوبر 2023، ونجتهد في من علم بالقرار ومن لم يعلم، ونغفل في رواية اللحظة الأولى دور الجماهير، فالمجموعات الفدائية التي اقتحمت السور الواقي في شمالي القطاع تبعتها مجموعات من المواطنين العزّل، الذين اندفعوا نحو المستوطنات الصهيونية وشاركوا في المعركة بشكل أو بآخر. هؤلاء المواطنون لم يكونوا على علم بالهجوم، فما الذي دفعهم إلى الخروج والمشاركة والاستشهاد؟
هذه الجماهير المتديّنة التي عبرت باتجاه فلسطين المحتلة لم تخرج دفاعاً عن معتقد ديني مهدّد، ولا لتحقيق هدف سياسي كتحرير فلسطين مثلاً، هي خرجت تعبيراً عن انفجار حالة التناقض بينها كجماهير مضطهدة وبين الجهة التي تمارس هذا الاضطهاد بشكل مباشر عن طريق الاحتلال والحصار والمتمثّلة بالكيان الصهيوني، وكذلك الجهات التي تمارس هذا الاضطهاد بشكل غير مباشر بواسطة الحصار، والتآمر على الحقوق السياسية للجماهير ممثّلة بالنظام الرسمي العربي.
لقد قدّمت الدوائر الاستعمارية روايتها عن الأحداث، والتي يمكن تلخيصها بأنّ السابع من أكتوبر كان من تخطيط وتنفيذ قوة/ قوى دينية متطرفة إرهابية (حماس بالدرجة الأولى، ثم حزب الله والجهاد الإسلامي)، وأنّ من لا يقف في صف “الجيش” الصهيوني والنظام الرسمي العربي المتواطئ معه، هو عضو (أو مؤيّد) في هذه المنظمات الإرهابية، لذلك يصبح قتله أو تدمير بنيته التحتية جزءاً من الحرب المقدّسة على الإرهاب، وأنّ هؤلاء الأفراد الإرهابيين هم المسؤولون عن معاناة الأبرياء في قطاع غزّة. لقد سقط الكثير من المثقّفين في براثن هذه الرواية الاستعمارية، وروّجوا لها.
من دون أن ننكر الدور البطولي لمقاتلي المقاومة من حركتَي حماس والجهاد الإسلامي وكلّ من حمل البندقية في وجه العدو الصهيوني، فإنّ من صمد وقدّم التضحيات ورفض التهجير وتمسّك بالأرض هو الشعب الفلسطيني بكلّ فئاته وخلفيّاته السياسية والثقافية والدينية.
ما أحاول قوله هنا إنّ السابع من أكتوبر وما تلاه لم يكن عملية عسكرية عابرة غير محسوبة العواقب استدعت رداً من العدو جاء على شكل مجزرة. هذه النظرة السطحية لما حدث هي جوهر الرواية الصهيونية فهي تغفل تماماً دور الشعب الفلسطيني في المعركة، تحضيراً وتنفيذاً وصموداً.
لقد امتدّ نضال الشعب الفلسطيني على مدى أكثر من قرن راكم خلاله العديد من الخبرات والإنجازات على المستويين العملي من خلال عشرات المعارك، والنظري من خلال تراكم الوعي بطبيعة الصراع الذي يتجاوز مفهوم الاحتلال ليتحوّل إلى صراع مباشر مع قوى الإمبريالية والاستعمار. لقد جاءت لحظة السابع من أكتوبر تتويجاً لتراكم الوعي بطبيعة التناقض بين المستعمرين والشعوب المقهورة. هذا الوعي أخذ بعداً كونياً ليتحوّل إلى مواجهة بين طرفي التناقض. من خلال هذا التحليل الجدلي للحظة تاريخية معيّنة نستطيع القول إنها كانت ثورة حقيقية لا تقلّ في أثرها على تاريخ المنطقة عن أثر كومونة باريس في تاريخ أوروبا.
في الوقت نفسه، فإنّ الردّ الصهيوني لم يكن مجرّد ردّ فعل محلي على عملية عسكرية كبرى ومؤلمة، بل كان إنفاذاً لمخطط استعماري جرى الإعداد له على مدى سنوات. ما رشح عن دوائر استخبارية أنّ عملية البيجر في لبنان جرى الإعداد لها لمدة 4 – 5 سنوات قبل تنفيذها، وأنّ العملاء الذين ساعدوا الكيان الصهيوني من داخل إيران أثناء حرب الـ 12 يوماً جرى تجنيدهم على مدى 10 سنوات. يرتبط هذا المخطط القديم بالأزمة المزدوجة التي يعيشها المشروع الاستعماري في فلسطين، فمن ناحية، يشكّل وجود الفلسطينيين واستمرارهم بالمطالبة بحقوق سياسية، وسيادة على أرضهم (كاملة أو جزئية) تهديداً للبنية الاجتماعية والديموغرافية التي حاول الصهاينة فرضها على فلسطين عبر أكثر من 100 عام، ومن ناحية أخرى، تنامي قوة المقاومة والذي أصبح يشكّل تهديداً وجودياً للكيان الصهيوني منذ انتصار أيار/مايو 2000 وحتى معارك “سيف القدس” و”وحدة الساحات”. كان لا بدّ من القضاء على المقاومة كتهديد مباشر، والتخلّص من ضغط المطالبات السياسية للشعب الفلسطيني التي تشكّل تهديداً استراتيجياً بتحويل هذا الشعب إلى أقلية مهملة يمكن تجاوز حقوقها السياسية، ومنحها حقوقاً ثقافية كما حدث مع السكان الأصليين في أميركا وأستراليا ونيوزيلندا.
وصل التناقض إلى ذروته من خلال ما كان يحدث في الضفة الغربية من محاولات واضحة للتهجير، والاستيلاء على الأراضي كما حدث في غور الأردن، وكذلك السعي المتسارع نحو تغيير الواقع الجغرافي والديموغرافي من خلال الاتفاقيات الإبراهيمية، وفي لحظة الذروة حدث الانفجار، لأنّ الوعي الجمعي الفلسطيني والمقاوم أدرك أنّه “بالأمس باكر جداً، وفي الغد متأخر جداً، وأنّ اليوم هو الوقت المناسب”. بالتالي، لا يمكن تحميل فرد أو جماعة بعينها مسؤولية لحظة السابع من أكتوبر، فهذه ثورة الشعب الفلسطيني كلّه، المدعومة من كلّ القوى الثورية العربية، سواء كان ذلك بالسلاح أو بالكلمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عماد الحطبة