موقف ترامب أربك حسابات السياسة لدى كثير من الأطراف، وطرح سؤالاً جوهرياً، كيف لشخصية مثل ترامب الذي منح “إسرائيل” كل شيء تحلم به يقف لها اليوم بالمرصاد أمام مشروع ضم الضفة الغربية.
فجّر التصويت الأولي في الكنيست الإسرائيلي على ضم الضفة الغربية أزمة مع البيت الأبيض الذي أعلن بوضوح أن الضم خط أميركي أحمر، وأن لا مكان له في مشروع التسوية السياسية التي تجري، في موقف عبر عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب شخصياً لمجلة تايم أنه لن يسمح لـ “إسرائيل” بمثل هذه الخطوة وأنه تعهد للقادة والزعماء العرب بذلك، سرعان ما جعل نتنياهو يتراجع خطوة للخلف طالب فيها ائتلافه بعدم تقديم مقترحات بشأن السيادة على الضفة الغربية حتى إشعار آخر، وهو ما شكل ضربة لنتنياهو وأحلامه الاستيطانية وشركائه في الإئتلاف.
عودة بالذاكرة إلى الوراء قليلاً إبان ترشح الرئيس ترامب في ولايته الأولى ، قدم ترامب نفسه آنذاك على أنه شخصية مختلفة عن غيره وأنه ليس رئيساً تقليدياً للولايات المتحدة الأميركية، وأطلق ما سمّي بصفقة القرن التي قدمت لــ “إسرائيل” الضفة الغربية على طبق من ذهب، و ضوءاً أخضر بضمها مقابل وعود اقتصادية وحلول سياسية جزئية للفلسطينيين، وانتهت ولايته الأولى من دون تحقيق ذلك وبقيت الصفقة حبراً على ورق ولم تنضج الظروف آنذاك لتحقيق هذا الهدف.
تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال وجاء ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية في ولاية ثانية، في وقت شهدت فيه المنطقة أطول حرب تخوضها “إسرائيل” منذ قيامها، وقدم نفسه أنه رجل السلام وصاحب الصفقات الذي سينهي حروب المنطقة كلها، واستطاع مؤخراً كما تابعنا جميعاً من تقديم خطة أوقفت الحرب على غزة، لكن وبتحول صريح منه تجاه موضع ضم الضفة الغربية تحت السيطرة والسيادة الإسرائيلية الكاملة، فما الذي تغير وما أسباب هذا التحول؟
موقف الرئيس ترامب أربك حسابات السياسة لدى كثير من الأطراف، وطرح سؤالاً جوهرياً، كيف لشخصية مثل الرئيس ترامب الذي منح “إسرائيل” كل شيء تحلم به سياسياً وعسكرياً يقف لها اليوم بالمرصاد أمام مشروع ضم الضفة الغربية.
ثمة سؤال يطرح نفسه في هذا السياق، لماذا رفض ترامب الضم الآن ؟ في حسابات السياسة تغيرت الظروف وتبدلت الأهداف وتداخلت المصالح الاستراتيجية ومعها الحسابات الإقليمية في وقت تشهد فيه حسابات السياسة بواشنطن تحولات جديدة.
ثمة أسباب إستراتيجية وفق حسابات السياسة الأميركية في واشنطن، أولها الوعد الذي قطعه الرئيس ترامب لزعماء الدول العربية خلال لقائه بهم مؤخراً، إذ ترى إدارة الرئيس ترامب التي تواجه ملفات عالمية كبرى أنها لا تريد أن تتحول المنطقة إلى مصدر إضرابات دائم تعطل مشاريع واشنطن الاستراتيجية وتقلص من مصالحها مع دول عربية وغربية وازنة في المنطقة، بعد حرب استمرت عامين كاملين على غزة أحدثت حالاً من الاصطدام بين الموقف الغربي الدولي وبين “إسرائيل”، وأن القيام بمثل هذه الخطوة لم يعد شأناً يندرج فقط في دائرة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأن القيام بخطوة كهذه سيؤدي إلى انفجار إقليمي سيدخل المنطقة في آتون حرب من نوع آخر سيكون لها ارتدادات سلبية أكثر على “إسرائيل” التي باتت تعيش في عزلة دولية غير مسبوقة بل وباتت منبوذة بشكل لم يمر منذ نشأتها.
ترغب إدارة الرئيس ترامب في إعادة دمج “إسرائيل” مجدداً في المنطقة العربية وتعمل على توفير بيئة ملائمة لذلك، كي تحافظ على مسار التطبيع الذي روّجته سابقاً وتريد إعادة إنتاجه مرة أخرى بما يعطيها زخماً وقوة سياسية دبلوماسية كبيرة، وترى أن مسألة الضم تحديداً في الوقت الحالي تقوّض هذا المسار وتعيد العلاقات بين “إسرائيل” وأطراف كثيرين في المنطقة إلى دائرة الصدام ، وهو ما يجعل رفض الضم من وجهة نظر البيت الأبيض خطوة لحماية مكاسب سياسية استراتيجية تُعد من وجهة نظره إنجازاً أميركياً منذ عام 2020 يجب استكماله.
الموقف العربي ليس ببعيد عن حسابات السياسة الأميركية، فقد كان حاضراً لدى إدارة الرئيس ترامب الذي قطع وعداً على نفسه أمام عدد من الزعماء مؤخراً بمنع “إسرائيل” من الإقدام على الضم، وقد تشكلت ضغوط عربية إسلامية ومواقف واضحة إزاء هذه الخطوة، أعربت بوضوح عن رفضها للخطوة وخشيتها من تداعيات خطيرة ستترتب حال إقدام “إسرائيل” عليها، إذ ترى إدارة ترامب أنها بحاجة ماسة إلى موقف عربي متماسك بعد إنهاء الحرب في غزة، وتحديداً في ملفي الأمن القومي والإعمار على وجه الخصوص، وأن أي تخلٍّ في الموقف العربي معناه تشكل حال انفضاض وانفكاك عن الشراكة وابتعاد عن النفوذ الأميركي في المنطقة، وضرورة اتخاذ موقف يراعي هذه التحولات في المصالح العربية.
ثمة سؤال يطرح نفسه في هذا السياق، ما الذي تغير في استراتيجية إدارة ترامب منذ طرح صفقة القرن وحتى طرح ما أطلق عليها خطة ترامب للسلام؟ أعتقد أن الفرق ليس في المبدأ العام لدعم “إسرائيل” بقدر ما هو في الضم كعملية والآثار المترتبة عليها، صفقة القرن كانت خطة لفرض إملاءات سياسية ووقائع من قبل “إسرائيل” من جانب واحد بغطاء أميركي مقابل وعود اقتصادية وسياسية للشعب الفلسطيني، أما إذا وقفنا على حقيقة الموقف الرافض للضم الآن من قبل البيت الأبيض، فأكاد أجزم أنه قرار سياسي فيه من التضليل والخداع الكثير، وترى إدارة الرئيس ترامب أن الضم الآن لن يمنح “إسرائيل” مكسباً استراتيجياً، بل سيكلفها مزيداً من العزلة الدبلوماسية والسياسية مجدداً بعد حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في غزة وستكون تكاليفه عالية عليها، وهذه معادلة جديدة ترى فيها إدارة ترامب أن تقوية وتمتين وحماية المصالح الأميركية والإقليمية ضرورة أولوية على حساب مشاريع إسرائيلية خالصة.
قضية الضم يعتبرها بعض الأطراف في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي مسألة إسرائيلية خالصة يجب تنفيذها، لكن في حقيقتها ليست كذلك، وهي قضية ذات دوافع داخلية وخارجية متشابكة، فداخل “إسرائيل” تنظر الائتلافات اليمينية إلى قضية الضم كإنجاز سياسي لها، لكن على الوجهة المقابلة الأطراف الأمنيون والخارجيون يدركون أن الضم سيكون له تأثيرات سلبية وسيؤجج المنطقة من جديد وتحديداً في الضفة الغربية، وستطال تأثيراته دولاً مجاورة كالأردن ومصر ، وهذا الخلاف داخل “إسرائيل” يعطي واشنطن هامشاً كبيراً للتأثير في القضية.
ترى إدارة ترامب من وجهة نظرها ووفق حساباتها أنه تقع على عاتقها مسؤولية كبيرة عنوانها إنهاء الحروب في العالم وفرض حالة من الاستقرار الدولي، وتباهى ترامب مراراً وتكراراً أنه أنهى عدة حروب كان آخرها حرب غزة ، وفي هذا السياق هو يتدخل اليوم في مسألة الضم، وعبّر عن ذلك علانية وقال :” لن أسمح بالضم” ويعتقد ترامب أن هذا الموقف يشمل بالنسبة لإدارته رسالة سياسية للحفاظ على مصالح استراتيجية أكبر، وليس بالضرورة لتغير أخلاقي في موقف إدارته تجاه القضية الفلسطينية، وإنما لارتدادات ذلك على المشهد المتعلق تحديداً بطوفان الاعترافات الدولية بدولة فلسطينية مع الموقف الأوروبي المتصاعد ضد “إسرائيل”، شكلت ضغطاً على الإدارة الأميركية لتقف ضد أي خطوات يمكن أن تقوم بها “إسرائيل” ضد مسألة الضم بشكل صريح.
“إسرائيل” ما قبل السابع من أكتوبر ليست كما بعدها، وكثير من الشواهد يشير إلى ذلك، ومنذ اللحظة التي أجبر فيها الرئيس ترامب نتنياهو على تقديم الاعتذار من جراء القصف الذي أقدم عليه في قطر بعد محاولة اغتيال قيادات حركة حماس، وما تبعه من أحداث مهمة في سياق الموافقة على خطته التي طرحها لوقف الحرب وزيارته الأخيرة للمنطقة وإعلانه في الكنيست الإسرائيلي أن الحرب على غزة انتهت، وصولاً إلى تقديم سموتريتش اعتذاره للسعودية بعد تصريحاته الأخيرة، فقد بات واضحاً أن البيت الأبيض يسيطر على المشهد والقرار السياسي في “إسرائيل”، حتى وصل الحال بالجمهور في “إسرائيل” إلى أن يصرخ بأعلى صوته ويقول:” أصبحنا دولة تحت الوصاية الأميركية”.
الرئيس ترامب في تصريحاته الأخيرة وضع النقاط على الحروف وصرّح بوضوح ، أن ضم الضفة الغربية لن يحدث لأنه قطع على نفسه وعداً لزعماء الدول العربية وقالها بشكل صريح :”أعطيت كلمتي للدول العربية، وإذا ضمت “إسرائيل” الضفة ستفقد دعمنا بالكامل، نتنياهو ليس أمامه سوى الموافقة على خطتي في غزة، وإن لم أوقف نتنياهو، العالم كله سيوقفه وشعبية “إسرائيل” باتت في تراجع”.
كل هذه التصريحات تعني شيئاً كبيراً ، وتفسر أننا بتنا نعيش أمام مشهد غير مسبوق، عنوانه “إسرائيل” تحت الإدارة والوصاية والسيادة الأميركية، وبهذه الحال لم تعد تل أبيب تصنع قرارها منفردة، بل تنفذ ما يطلب بها من البيت الأبيض، وهذا ما صرح به مسؤول أميركي رفيع ونقلته الصحافة الإسرائيلية:”إذا أفشل نتنياهو الاتفاق ، فإن الرئيس ترامب سيفشله هو ” وهذا معناه أن نتنياهو يسير على حبل رفيع جداً مع الرئيس ترامب الذي أعطاه فرصاً كثيرة لحسم الحرب في غزة لكنه فشل، وإذا استمر على هذه الحال فسينتهي به الأمر إلى إفشال الاتفاق بنفسه.
نحن أمام واقع جديد و صادم لأوساط كثيرة في “إسرائيل” بدأ يترجم إلى سلوك أميركي جديد في التعامل مع “إسرائيل”، وهو اتخاذ القرارات المصيرية عنها وفرض وصاية من نوع جديد. وهذا يعود إلى سببين رئيسيين: الأول رسالة لليمين المتطرف الذي يحكم “إسرائيل”، والثاني حماية “إسرائيل” وإنقاذها من نفسها.
واضح أن إدارة الرئيس ترامب باتت تدرك أن وجود “إسرائيل” أصبح مكلفاً لأميركا وبدلاً من أن تحمي مصالحها باتت عبئاً عليها، وهذا يتطلب دمج “إسرائيل” في المنطقة رغماً عنها، والطريقة الوحيدة التي تراها إدارة ترامب مناسبة هي إعادة دمجها عبر التطبيع في المنطقة مجدداً، ويجعل من وجودها مطلبا عربياً بحتاً.
وإزاء كل هذا ، يمكن الجزم أن الذي تغير ليس ولاء ترامب تجاه “إسرائيل”، بل طبيعة الأهداف الاستراتيجية والوسائل والمصالح كلها مجتمعة، من صفقة القرن التي حاولت رسم تسوية وفق قواعد وأسس ووقائع على الأرض، إلى موقف علني رافض رادع ضد الضم، وهذا معناه أن الإدارة الأميركية تقدم مصالحها الاستراتيجية وقضية الاستقرار الإقليمي وقبول “إسرائيل” ودمجها في المنطقة عن مغامرات الحروب التي يصر نتنياهو وشركاؤه على المضي بها استناداً إلى أجندة سياسية باتت مكشوفة.
