المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    ما هي العقبات التي يواجهها ترامب في خوض حرب فنزويلا؟

    بلغت التوترات في منطقة البحر الكاريبي وفي المياه قبالة...

    هكذا شرعَن الاحتلال الإسرائيلي احتجاز “جثامين الشهداء الفلسطينيين” عبر سبعة عقود من القوانين العسكرية والالتفافات القضائية

    منذ عقود، يحوّل الاحتلال الإسرائيلي أجساد الشهداء الفلسطينيين إلى أوراق مساومة سياسية وأمنية، متذرعًا بقوانين الطوارئ الموروثة عن الانتداب البريطاني، ومتوسعًا فيها بما يخالف كل الأعراف الدولية والإنسانية. آخر ضحايا هذه السياسة هما الشهيدان مثنّى عمرو (20 عامًا) من قرية القبيبة ومحمد طه (21 عامًا) من قرية قطنة، اللذان استُشهدا في الثامن من سبتمبر/أيلول الماضي بعد تنفيذ عملية إطلاق نار في حي “راموت” الاستيطاني بالقدس. ومنذ أكثر من شهر، ما زالت جثتاهما محتجزتين في ثلاجات الاحتلال، في إطار سياسة ممنهجة لمعاقبة الشهداء وذويهم.

    ووفقًا لـ الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، يحتجز الاحتلال 735 جثمانًا، منها 256 في مقابر الأرقام و497 منذ عام 2015 بعد عودة سياسة الاحتجاز. كما يُحتجز 336 جثمانًا منذ بدء الحرب على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بينهم 86 شهيدًا من الحركة الأسيرة، و67 طفلًا، و10 نساء. ويحتجز الاحتلال أيضًا 49 شهيدًا من القدس، أقدمهم الشهيد جاسر شتات الذي قُتل عام 1968، وأصغرهم الطفلان خالد الزعانين ووديع عليان (14 عامًا).

    من الانتداب البريطاني إلى “قوننة” الجريمة

    وتتبع جذور هذه السياسة إلى أنظمة الطوارئ البريطانية عام 1945، التي منحت مفوض المنطقة صلاحية تحديد مكان دفن المحكومين بالإعدام. ومع قيام “إسرائيل” عام 1948، تم تبنّي هذه الأنظمة ضمن التشريعات الإسرائيلية. وبعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، مدّد الاحتلال سريان تلك القوانين في الأراضي المحتلة بذريعة أنها “جزء من النظام القانوني القائم”.

    وفي عام 1976، أصدر الاحتلال أمرًا عسكريًا ينظّم جمع ودفن جثامين جنود العدو النظاميين، لكنه استثنى الفلسطينيين باعتبارهم “إرهابيين متسللين”، ما فتح الباب أمام دفن الشهداء في مقابر الأرقام دون هوية واضحة. تلا ذلك صدور تعديلات بين عامي 1977 و1997 منحت الجيش صلاحيات مطلقة في احتجاز ودفن الشهداء الفلسطينيين بعيدًا عن أعين ذويهم.

    القضاء الإسرائيلي… أداة لشرعنة الانتهاك

    وأسهم القضاء الإسرائيلي في تثبيت هذه السياسة. ففي أغسطس/آب 1992، سمحت المحكمة العليا بفرض قيود على جنازات الشهداء “لدواعٍ أمنية”، وهو ما شكّل سابقة خطيرة. وبعد عامين، أجازت المحكمة احتجاز الجثامين لغرض المفاوضات والتبادل، مستندة إلى المادة 133 من أنظمة الطوارئ. هذا القرار شرعن للمؤسسة العسكرية تحويل الجثامين إلى ملف مساومة في صفقات تبادل الأسرى.

    ومع اندلاع الانتفاضة الثانية (2001–2004)، ارتفع عدد الجثامين المحتجزة إلى مستويات غير مسبوقة. ورغم توصية المدّعي العام عام 2004 بوقف الاحتجاز إلا لغرض التبادل، فإن الاحتلال واصل سياسته، وبدأت مقابر الأرقام تتوسع أكثر. وفي عام 2008، أطلق مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان الحملة الوطنية لاستعادة الجثامين، وتمكّنت في 2010 من تحقيق أول انتصار قانوني باستعادة جثمان الشهيد مشهور العاروري بعد 34 عامًا من دفنه في مقابر الأرقام.

    من التجميد إلى “قانون التفاوض”

    في يناير/كانون الثاني 2017، أصدرت المحكمة العليا قرارًا تاريخيًا يقضي بعدم وجود نص قانوني صريح يخول الجيش احتجاز الجثامين للتفاوض، وأمهلت الكنيست ستة أشهر لتشريع قانون جديد. وسرعان ما استغل المجلس الوزاري الإسرائيلي هذا القرار لتقنين الاحتجاز، مشترطًا ضمانات أمنية للإفراج عن الجثامين، مع استثناء أعضاء حماس لاستخدامهم في صفقات تبادل مستقبلية.

    وبعد سلسلة التماسات حقوقية، أقرّت المحكمة في سبتمبر/أيلول 2019 بأغلبية ضئيلة (4 مقابل 3 قضاة) جواز احتجاز الجثامين واستخدامها كورقة تفاوض، مستندة مجددًا إلى المادة 133 من لوائح الطوارئ، رغم غياب نص صريح يسمح بذلك. وبذلك، أعطت المحكمة الضوء الأخضر لتحويل الثلاجات ومقابر الأرقام إلى أدوات سياسية تُدار بقرارات عسكرية وأمنية بحتة.

    “إرث الموت”… مستمر بلا نهاية

    وتوضح دراسة مركز القدس (2021) أن سياسة احتجاز الجثامين تمثل امتدادًا ممنهجًا للعقوبات الجماعية التي يمارسها الاحتلال ضد الفلسطينيين، إذ تحرم العائلات من حقها في الحداد والدفن الكريم، وتنتهك اتفاقيات جنيف التي تلزم القوة القائمة بالاحتلال باحترام الموتى وإعادتهم إلى ذويهم دون تأخير.

    واليوم، وبعد أكثر من سبعة عقود من التشريعات والقرارات، تحولت مقابر الأرقام إلى شاهد على منهجية الاحتلال في إدارة الموت الفلسطيني، إذ يستخدم الجثامين كأدوات تفاوض، ووسائل ضغط، ورسائل ردع، في انتهاك صارخ للقانون الدولي والكرامة الإنسانية.

    وتبقى قضية الشهداء المحتجزة وصمة قانونية وأخلاقية تلاحق الكيان الإسرائيلي، ودليلاً على كيف حوّل الموتى إلى رهائن سياسية في واحدة من أبشع صور الاحتلال عبر التاريخ.

    spot_imgspot_img