الاختراق الحديث لم يعُد يحتاجُ إلى دبابةٍ أَو طائرةٍ أَو حِلفٍ عسكريٍّ صارخ، بل أصبح ناعمًا، يلبسُ لبوسَ الثقافة والإعلام والتكنولوجيا.
لم يعُد العدوّ يدخل من الحدود، بل من الشاشات، من مِنصّات التواصل، من المقرّرات الدراسية، ومن المنظمات التي ترفع شعارات “حقوق الإنسان” و“تمكين المرأة” و“حرية التعبير” لتُعيد تشكيل الوعي العربي وفق هندسةٍ فكريةٍ خفيةٍ ومدروسة.
بات الوعي العربي اليوم هو الميدان الأخطر، بعدما أدركت القوى المهيمنة أن تدميرَ البُنَى الذهنية أسهلُ من تدمير الجيوش.
فبدلًا عن الغزو العسكري، يُزرَعُ الشكُّ في الذات، ويُرسَمُ المستقبلُ بمنطق التبعية، ويُغتال الحلم القومي في وجدان الأجيال.
يُراد للعربي أن يرى في تاريخه عبئًا، وفي حضارته ماضيًا متخلفًا، وفي مقاومته عملًا عبثيًّا.
وهذا هو أخطر أنواع الاختراق: اختراق المعنى والهُوية.
لقد صُنعت أدوات هذا الاختراق بعناية؛ إعلام موجّه يُعيد إنتاج الرواية الغربية في كُـلّ حدث، دراما تُشوّه الرموز، ومناهج تُفرغ القيم من مضمونها.
بل حتى اللغة العربية نفسها صارت هدفًا؛ يُراد لها أن تُستبدل بلغات “السوق والتقنية”، لتُقطع آخر خيوط الانتماء الثقافي بين الأجيال وأمتها.
كما تسعى المشاريع السياسية الغربية والصهيونية إلى إغراق المنطقة في فوضى “التحالفات المتبدلة”، لتُصبح الأُمَّــة بلا محور ولا مرجعية.
فاليوم يُطرح “الشرق الأوسط الجديد” لا على قاعدة الوحدة أَو التكامل، بل على قاعدة التفتيت والتحييد، بحيث تُصبح “إسرائيل” مركز الاقتصاد والأمن الإقليمي، والعرب مُجَـرّد أطراف تدور حولها في فلكٍ اقتصادي وأمني مرسوم.
الاختراق الحديث أَيْـضًا يتغذى على الفساد الداخلي؛ إذ يُعاد إنتاج التبعية عبر بوابة القروض والاستثمارات والشروط الدولية، فيتحول القرار الوطني إلى ملفٍّ مالي، والسيادة إلى رصيدٍ في البنوك.
كُـلّ ذلك يجعل من العروبة مُجَـرّد ذكرى في الشعارات، لا مشروعًا سياسيًّا قائمًا.
إنّ مواجهة هذا الاختراق لا تكون برفع الصوت فقط، بل ببناء مناعة فكرية وثقافية، بإحياء الوعي النقدي الجمعي، وتعزيز الإنتاج المعرفي والإعلامي العربي المستقل.
فالأمة التي تُنتج فكرها تملك قرارها، والأمة التي تُقلّد فكر غيرها تُقاد دون أن تشعر.
لكنّ الأمل لم يمت.
فسدّ الفراغ العربي ممكن، إن استيقظ الوعي العربي الجديد، ذاك الذي دعا إليه نجيب عزوري منذ قرنٍ في كتابه يقظة الأُمَّــة العربية.
وكذلك ما يدعو إليه اليوم السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، فكما استطاعت أُورُوبا أن تتجاوز قرونًا من الحروب لتقيم اتّحادا واحدًا، يستطيع العرب أن يقيموا وحدة مصالح، وسوقًا مشتركة، ودفاعًا موحدًا، وتضامنًا يُعيد للأُمَّـة كرامتها.
إنّ العالم العربي لا يحتاج إلى قواعد أجنبية تحميه، بل إلى وعيٍ ذاتي يُحصّنه، إلى إيمانٍ بوحدة المصير لا شعارات تُرفع في المؤتمرات.
فالمعركة الحقيقية اليوم ليست بين الشرق والغرب، بل بين الوعي والاختراق، بين من يُريد نهضة الأُمَّــة ومن يُغذي تمزقها.
فلنبدأ من الداخل، من إصلاح الفكر قبل النظام، ومن إحياء الوعي قبل الحدود.
فالأوطان لا تُحمى بالسلاح وحده، بل بالعقول الحرة، والإرادات الصلبة، والهوية التي لا تُخترق.
