لم يعد خافيًا اليوم أن الشعب اليمني، من أقصى شماله وحتى جنوبه، ومن سهوله إلى جباله، يرى في مواقف صنعاء السياسية والعسكرية تجاه غزة وكل فلسطين مصدرًا عظيمًا للاعتزاز، ويُجِلّ الانجازات المتتابعة للقوات المسلحة اليمنية في الجو والبحر، تلك التي جعلت اليمن حاضرًا بقوة في قلب الصراع مع العدو الصهيوني.
وبات اليمنيون ينتظرون كل بيان يصدره الناطق العسكري، ينتظرونه كما تنتظر الأمةُ بروزَ فارسها في ساحة النزال. ما إن يظهر بملامح الثبات حتى تتعلق به الأبصار وتنبض القلوب، في زمنٍ تخاذل فيه كثيرٌ من الأنظمة العربية عن نصرة فلسطين، أو هرولت نحو خيانةٍ مُعلنة تفتخر بها تلك الممالك الراكعة أمام البيت الأبيض وتل أبيب.
ويتساءل اليمني بمرارةٍ كلما رأى المواقف المخزية للمنبطحين: كيف كان سيكون حال بلادنا لو قُدّر لتحالف العدوان أن يفرض وصايته على صنعاء؟ لو سقطت البلاد في براثن التبعية؟ في تلك اللحظة كانت اليمن ستُساق قسرًا إلى موقع العار الذي انتهى إليه آخرون، وكانت قضيتنا الفلسطينية ستُختزل إلى بيانات باردة، وربما كنا سنشهد صهاينة يسرحون في شوارع صنعاء، كما يفعلون اليوم في عواصم طالما تغنت بالعروبة.
غير أنّ قدر اليمن كان مختلفًا، فقد اصطدم العدوان بجدارٍ من الإيمان والتضحية لم يتمكن من اختراقه مهما اشتدت الهجمة وطالت الحرب. دماء الشهداء هي التي وقفت سدًا منيعًا أمام مشاريع إذلال الوطن، وهي التي منحت اليمن قدرةً على رفع صوته عاليًا في وجه الظلم، وعلى الحضور في قلب معادلة القوة الإقليمية.
ولولا تلك الدماء الطاهرة، لما رأى العالم راية اليمن وهي تخترق سماء العدو فوق أم الرشاش المحتلة التي تُسمّى اليوم “إيلات”، ولما شاهد الأساطيل الأجنبية تُرغم على التراجع وهي تراقب سفينة صهيونية تُقاد مذعورة في أعماق البحر الأحمر. هذه المشاهد وحدها تكفي لتجعل كل يمني يمشي مرفوع الرأس، مطمئنًا إلى أن وطنه لم يعد يُدار من خلف الحدود.
وعندما نتأمل مسيرة هؤلاء الشهداء، ندرك أنهم انطلقوا بإمكانات شحيحة يقودهم يقينٌ راسخ بعدالة قضيتهم، فواجهوا أعتى قوى الهيمنة متسلحين بالإيمان وحده، وتركوا لنا وطنًا يقف اليوم في طليعة حلف المقاومة، يرفع راية فلسطين بلا مساومة، ويتقدم الأمة نحو معركة التحرير المرتقبة.
كما أن بصيرة الشهداء كانت من أهم عوامل انتصارهم، فقد اختاروا طريق العز في وقتٍ اختار فيه آخرون بيع مبادئهم في سوق الارتزاق، فسقطوا في وحل الخيانة، وانتهت ذكراهم مع أول رصاصة استقرت في صدورهم وهم يقاتلون من أجل أسيادٍ لا يعرفون للوفاء معنى.
إن أقل ما يمكن تقديمه اليوم وفاءً لتلك التضحيات، أن يواصل اليمنيون السير على الطريق ذاته، وأن يحافظوا على ثمار النصر التي أينعت بدماء خيرة أبناء الوطن، حتى تنجلي ظلمات الاحتلال عن فلسطين، ويستعيد شعبها كل ذرةٍ من أرضه، ويُكتب للعرب مجد التحرير من جديد. هذا عهدٌ قطعه اليمنيون على أنفسهم، وسيبقون عليه ما بقي الليل والنهار.
                                    