المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    اليمن في مواجهة “إسرائيل”.. تحذير استراتيجي وتحول في معادلة الردع الإقليمي

    في خضم التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط، برز الموقف...

    الخارجية اليمنية تطالب بإنهاء الاحتلال وتسليم المتورطين في جريمة استهداف الحكومة

    رحّبت وزارة الخارجية والمغتربين بالمساعي الأخيرة التي تبذلها الأمم...

    ما بعد الحرب.. “الاحتلال الإسرائيلي” على حافة الانهيار: عزلة دولية، انقسام داخلي، وتصدّع في أسطورة الردع

    بعد عامين من حربٍ ضارية قلبت موازين المنطقة، يقف “الاحتلال الإسرائيلي” على حافة مرحلةٍ جديدة، تتلاشى فيها صورة “الجيش الذي لا يُقهر”، وتتصدّع فيها أركان الدولة من الداخل والخارج. الحرب التي رُوّج لها كحرب “الحسم والردع”، تحوّلت إلى مأزقٍ وجوديٍّ كشف هشاشة الكيان، وأظهر أن قوّته العسكرية عاجزة عن ترميم انقسامه الداخلي أو إقناع العالم بعدالة قضيّته.

    يُجمع تقرير صادر عن “معهد الأمن القومي الإسرائيلي” على أن مرحلة ما بعد الحرب شكّلت نقطة تحوّل خطيرة في تاريخ الكيان. فبعد سنتين من القصف والحصار والمجازر، يعترف التقرير بأن “الاحتلال الإسرائيلي فشل في تحقيق أهدافه المعلنة”: لم تُسقط حماس، ولم تُنهِ بنيتها العسكرية، ولم تجد بديلاً لإدارة قطاع غزة. وبدلاً من الانتصار السريع الذي وعد به قادتها، غرقت في مستنقعٍ استراتيجيٍّ أنهك جيشها واستنزف اقتصادها، وفضح تناقضات نظامها السياسي والعسكري.

    الدعاية التي رفعت شعار “تدمير حماس” انتهت بواقعٍ معاكس تماماً: الحركة ما زالت قائمة ومتماسكة، والمجتمع الصهيوني يُصاب بتآكلٍ داخليٍّ وتوتّرٍ متصاعد. الحرب التي كان يُفترض أن تُعيد الهيبة لجيش الاحتلال، كشفت فقدانه للمبادرة وهشاشة الجبهة الداخلية، التي لم تعد تحتمل أكاذيب القيادة ولا أثمان المغامرة العسكرية.

    على المستوى الدولي، تحوّل الكيان خلال الحرب من “ضحية الإرهاب” إلى رمزٍ للوحشية والتجويع والتطهير العرقي”. ويقرّ التقرير بأن الرأي العام الغربي شهد تحوّلاً جذرياً، بعدما انتقل “الاحتلال الإسرائيلي” من موقع التعاطف إلى موقع الإدانة، وأن علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ عقود.
    أزمة رفح مثّلت لحظة القطيعة الكبرى بين واشنطن وتل أبيب، حين تجاهلت حكومة نتنياهو التحذيرات الأمريكية وواصلت القصف العشوائي، ما دفع إدارة بايدن إلى تعليق توريد الذخائر الثقيلة وفرض قيود على التعاون العسكري.

    تلك الحادثة لم تكن سوى رأس جبل الجليد؛ فـ”الاحتلال الإسرائيلي”، بحسب التقرير، انتهك الاتفاقيات الدولية وخرق تفاهمات إطلاق الرهائن، ثم فشل في مواجهة الحملة العالمية التي فضحت سياسة “التجويع المتعمد” في غزة. وجد نفسه مطارد في المحافل الدولية وتحت تهديد العقوبات، فتحوّل الكيان الذي كان يتباهى بأنه “الركيزة الأخلاقية للديمقراطية في الشرق الأوسط” إلى كيانٍ منبوذٍ يعيش عزلة سياسية وأخلاقية خانقة.

    في الداخل، تزداد الصورة قتامة. فالمجتمع الصهيوني يعيش انقساماً داخلياً غير مسبوق منذ تأسيس الكيان، انقساماً يطال كل شيء: أهداف الحرب، مصير الرهائن، العلاقة مع الولايات المتحدة، ومستقبل النظام السياسي نفسه. لم يعد هناك إجماع حول شيء، ولا ثقة في أحد. الحكومة التي خاضت الحرب باسم “الوحدة الوطنية” خرجت منها أكثر تفككاً وضعفاً، بينما تحولت الجبهة الداخلية إلى معسكرات متناحرة يتبادل فيها اليمين واليسار الاتهامات بالخيانة والتفريط بالردع.

    في موازاة ذلك، تغيّر المشهد الإقليمي. فالحرب أضعفت نفوذ المحور الإيراني، لكنها في المقابل فتحت الباب أمام “محورٍ سني–إخواني جديد” تدعمه واشنطن وتُغذيه الدوحة وأنقرة، ما أعاد رسم توازنات الشرق الأوسط بطريقةٍ لا تخدم المصالح الإسرائيلية. كما أن تدويل الصراع الفلسطيني ووجود قوات دولية في غزة للمرة الأولى، جعل “إسرائيل” تقاتل تحت المراقبة وتفقد حريتها في الحركة العسكرية، في مشهدٍ لم تعرفه منذ قيامها.

    في ختام التقرير، يدعو معهد الأمن القومي للاحتلال الإسرائيلي إلى إعادة بناء “سياسة أمن قومي جديدة” تتكيّف مع الواقع الدولي والإقليمي المتغيّر، لكنه يقرّ بأن هذا التحوّل شبه مستحيل في ظلّ الانقسام الداخلي الحادّ، وانعدام الثقة بين الجمهور والقيادة، واستفحال الصراع على السلطة والرواية والمسؤولية. ويخلص التقرير إلى خلاصة مريرة مفادها أن “إسرائيل تدخل مرحلة ما بعد الأسطورة، حيث لم تعد قادرة على إقناع العالم، ولا حتى شعبها، بأنها قادرة على الانتصار”.

    وهكذا، لم تكن نتائج الحرب مجرد إخفاقٍ عسكري، بل انكشاف استراتيجي شامل وضع الكيان أمام أسئلة وجودية مصيرية. فكيف لدولةٍ فقدت شرعيتها الأخلاقية أن تحافظ على ردعها؟ وكيف لجيشٍ مُنهكٍ أن يفرض هيمنته على منطقةٍ تموج بالتحولات؟ وكيف لكيانٍ منقسمٍ على ذاته أن يواجه مقاومةً لا تعرف الهزيمة؟

    الجواب، كما يلمّح التقرير نفسه، هو أن “الاحتلال الإسرائيلي اليوم يعيش مرحلة الانكشاف الكامل: انكشاف القوة، وانكشاف الوهم، وانكشاف الأسطورة”. لم يعد “الاحتلال الإسرائيلي” يخيف أحداً؛ ما يخشاه الآن هو نفسه.

    spot_imgspot_img