في زمنٍ تتشابك فيه خيوط الاستخبارات وتُدار الحروب بالوكلاء والبيانات المضللة، يطل اليمن اليوم كاستثناء صعب في معادلة الأمن الإقليمي، بعد أن استطاع بعزيمة أبنائه ويقظة مؤسّساته الأمنية أن يسبق خصومه بخطوات، وأن يثبت أن معركة الوعي لا تقلُّ أهميّةً عن معركة البندقية.
العملية الأمنية الأخيرة التي أعلنت عنها وزارة الداخلية اليمنية ليست مُجَـرّد كشف شبكة تجسس عابرة، بل هي فصل جديد من معركة طويلة يخوضها اليمن ضد منظومة استخباراتية معقدة تضم أجهزة أمريكية وصهيونية وسعوديّة، تعمل بتنسيق مشترك لاستهداف الجبهة الداخلية، وتمزيق النسيج الاجتماعي، وخلق بؤر ارتباك داخل المؤسّسات السيادية.
اللافت في العملية ليس فقط حجم المعلومات التي تم الحصول عليها، ولا مستوى الاحتراف في التنفيذ، بل التحول النوعي في منهجية التعاطي مع التهديدات؛ فالدولة لم تعد تنتظر وقوع الحدث، بل باتت تذهب إليه في عُقْرِه عبر عمل استخباري منظم، يستند إلى رؤية استراتيجية تعتبر الأمن جزءًا من معركة الوعي الوطني.
هذه الشبكة التي تم تفكيكها لم تكن شبكة تقليدية، فهي نتاج سنوات من العمل السري المشترك بين أجهزة أجنبية، حاولت بناء نفوذ داخلي عبر تجنيد عناصر مدنية وأمنية، وتوظيفها في جمع معلومات حساسة عن المنشآت العسكرية ومراكز القرار ومناطق انتشار القوة الصاروخية والطيران المسير، إضافة إلى توفير إحداثيات دقيقة استُخدمت لاحقًا في استهداف الأسواق والمنازل والمراكز الخدمية.
نجاح العملية يؤكّـد أن اليمن تجاوز مرحلة الدفاع عن النفس إلى مرحلة المبادرة، وأن قدرته على تفكيك أخطر الخلايا دليل على تراكم خبرات أمنية عالية المستوى اكتسبتها الأجهزة خلال سنوات العدوان والحصار، وأن مخرجات هذه العملية لا تتوقف عند البعد الأمني، بل تمتد إلى البعد السياسي والعسكري والإقليمي.
فعلى الصعيد الداخلي، أعادت العملية الثقة للمواطن بأن مؤسّسات بلده تمتلك زمام المبادرة، وتستطيع حماية الجبهة الداخلية من الاختراقات المعقدة.
وعلى المستوى الإقليمي، بعثت برسالة واضحة أن اليمن بات لاعبًا حقيقيًّا في ميدان الأمن، وأن اختراقه من الداخل لم يعد ممكنًا، وأن محاولات استهدافه عبر الوكلاء والخونة ستنتهي دائمًا بالفشل.
وعلى المستوى الدولي، فإن فشل هذه الشبكة يعرّي هشاشة المنظومة الاستخباراتية الأمريكية والصهيونية، ويكشف أن حرب العقول التي خاضها اليمن خلال العقد الأخير كانت أكثر تأثيرا من حرب السلاح؛ لأَنَّ العدوّ الذي كان يظن نفسه المتحكم بمسار الميدان، فوجئ بأن أدواته في الداخل أصبحت مكشوفة ومحسوبة.
هذا الإنجاز الأمني لا يمكن عزله عن سياق الصراع الشامل الذي تخوضه صنعاء دفاعًا عن سيادتها وعن حقها في تقرير مصيرها، فكل عملية من هذا النوع تشكل امتدادا لمسار التحرّر الوطني، وتضيف بعدًا جديدًا لمعادلة الردع الشامل التي تبنيها اليمن اليوم بأدواتها الذاتية وبإمْكَاناتها المحلية.
لقد فشلت مشاريع الاختراق الاستخباراتي كما فشلت من قبل مشاريع الاختراق العسكري والإعلامي؛ لأَنَّ الجبهة الوطنية باتت تمتلك وعيًا استراتيجيًّا يجعلها قادرة على قراءة النوايا قبل أن تتحول إلى أفعال، ولهذا فإن سقوط هذه الشبكة لا يمثل نهاية قصة، بل بداية مرحلة جديدة عنوانها أن اليمن لم يعد ساحة اختبار لأجهزة الاستخبارات الأجنبية، بل أصبح عقدة يصعب تجاوزها في أي معادلة أمنية قادمة.
ما تحقّق هو رسالة مزدوجة للأعداء وللأصدقاء؛ فالأعداء يدركون أن كُـلّ محاولة اختراق ستُجهض قبل أن تولد، والأصدقاء يفهمون أن اليمن بات قادرًا على حماية نفسه وحماية محوره، وأنه يسير بخطى واثقة نحو بناء منظومة أمنية مستقلة تعتمد على كوادر وطنية وعلى إرادَة لا تنكسر.
إن كشف هذه الشبكة يمثل تحوُّلًا في ميزان الردع، ليس فقط؛ لأَنَّها أجهضت عملية تجسس؛ بل لأَنَّها أثبتت أن أمن اليمن بات جزءًا من أمن الأُمَّــة، وأن من كان يُستهدف بالأمس أصبح اليوم قادرًا على حماية المنطقة من مشاريع الهيمنة والتبعية.
وهكذا يتحول اليمن من ساحة مواجهة إلى مصدر توازن، ومن دولة محاصرة إلى قوة إقليمية تفرض حضورها في معادلة الأمن والسيادة بقوة الإيمان والوعي والإرادَة ونعمة القيادة الحكيمة.
