إذا لم يكن العالم قادرًا على حماية طفل يرتجف من البرد، فما معنى الإنسانية؟ وإذا فشل في توفير خيمة تقاوم المطر؛ فبأي وجه يكرر شعارات حقوق الإنسان؟
يأتي فصل الشتاء هذا العام، وقد غرقت غزة بماء المطر، وهي تصرخ في وجه العالم ولا مغيث، إذ إن الاحتلال قام كالعادة بنكث العهود ولم يسمح بإدخال المساعدات، كما لم يسمح بإدخال الكرافانات أو حتى الخيام التي لا يمكن لها أن تحمي الأطفال من الصقيع أو المطر، إلى درجة أن مشهد تلبد السماء بالغيوم صار عامل قلق كبيراً لدى عوام الناس في مخيمات النزوح، والمعضلة الأكبر أن كل محاولات جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة لا يمكن لها أن تعالج أياً من المشكلات الحقيقية هناك، نتيجة تدمير البيوت والعمائر والأبراج، واقتلاع مياه الصرف الصحي، كما قاموا من قبل باقتلاع أحشاء الحوامل وبقروا بطونهن؛ فقد أعلن الجهاز مؤخرًا أنه لا يستطيع التعامل مع حالات الغرق في قطاع غزة، إذ إن القدرات المادية واللوجستية وطواقم العمل ضئيلة جدًا أمام هول الكارثة، خصوصًا مع استشهاد معظم فريق جهاز الدفاع المدني، وإصابة البعض الآخر، وتدمير المقر الرئيس وكل المقار والسيارات والعربات التابعة له.
إن فصل الشتاء الذي يعبر عن الرومانسية في بلدان العالم، بما فيها بلدان العالم الثالث، بات يعبر عن حجم الخذلان تجاه الإنسان الفلسطيني، فالعالم أجمع، وخصوصًا مؤسسات صنع القرار الدولي وهيئات حقوق الإنسان وغيره، صامت لا يحرك ساكنًا، فالإنسان الفلسطيني ينظر بازدراء إلى الآخرين بعدما غرقت غزة مع أول قطرة مطر، وباتت مياه الصرف الصحي تختلط بمياه المطر بين الخيام ومراكز إيواء النازحين. والأمر لم يتوقف عند ذلك الحد، فقد غرقت الملابس الخفيفة والأغطية، وصار المشهد موحشًا؛ فمع تدمير المجمعات السكنية، اختفت الملابس، ولم يدخل حتى اللحظة إلى قطاع غزة أي ملابس جديدة، وما هو موجود مرتفع السعر بشكل يفوق قدرة المواطن الفقير على الشراء، وفي ظل أزمات السيولة والتكييش المستحدثة، إذ باتت الأغطية مغمسة بالوحل والروائح الكريهة والأمراض، إلى درجة أن فيديوهات ناشطي الإعلام الاجتماعي صارت تخرج إلى العلن بشكل يثير الشفقة لدى الفلسطيني النازح نفسه، إلى درجة أنه يقول فيها: “الحمد لله أنني أفضل من غيري”، ويقصد بذلك أنه استطاع توفير شوادر أو نايلون يحمي الخيمة إلى حد لا بأس به، أو نجح بالاختباء أسفل أنقاض بيته بعد استصلاح غرفة بلا جدران.
غزة التي لا يعرفها إلا من يعيش بين ركامها اليوم، أضحت مدينة بلا أنابيب، ولا شبكات صرف صحي ولا طرق صالحة للاستخدام، والأمطار التي كان من المفترض أن تنعش الأرض أصبحت تُغرق ما تبقى من حياة. أذكر أن زوجتي قبل عدة أسابيع، وبينما كانت تنزح في منطقة الزوايدة وسط قطاع غزة، سقطت على ظهرها أكثر من مرة، نتيجة الطين الموجود في منطقة الوسطى، لأنها أراضٍ زراعية، والحاجة هي ما دفعت أصحاب تلك الأراضي إلى إقامة مخيمات أو تأجيرها للسكن وليس للزراعة.
وتساءلت حينها: ماذا لو جاء الشتاء؟ وما مصير العجائز اللواتي يرغبن في دخول الحمام أثناء المطر؟ ماذا عن النساء الحوامل؟ كيف يمكن اجتياز الطين؟ والعجائز والحوامل كثر، والمستشفيات بلا أسرة ولا أطباء يمكنهم علاج الحالات بسبب اكتظاظ المشافي والممرات والأرض هناك، والمشافي أيضًا محدودة بعد استهداف القطاع الصحي بالكامل.
إن ما يحدث اليوم ليس قدرًا طبيعيًا، فرضته ظروف سماوية معينة، إنما نتيجة مباشرة لحرب أنهكت الإنسان والشجر والحجر، ودمرت بيئة الحياة بالكامل، وجعلت غزة مجرد أطلال، لا تصلح إلا للقصائد، فهذا الاحتلال السادي استهدف كل مقومات النهضة والحضارة، وحاول طمس كل معالم البناء المعماري القديم والحديث، إمعانًا في ترك سكان القطاع يواجهون مصيرهم بلا مأوى أو وسائل نجاة، لعلهم يقررون الهرب من هذه المقتلة ويخرجون من غزة التي لعنها الرب حسب التوراة عند هذا جيش الاحتلال المتطرف.
لذلك، فهو يتعمد منع المؤسسات الدولية والعربية من إدخال الخيام، كما بات يتحكم في ما يدخل البركسات (المخازن) وما يخرج منها، ومواعيد توزيع المساعدات هناك، وهو سلوك جديد يوضح إلى أي حال وصلت إليه مدينتنا المدمرة.
والسؤال المهم هنا، أمام معاناة الأمهات بحماية أبنائهن، وانعدام الخصوصية والأمان في الخيام، وفقدان المدرسة ودفء المنزل وانتشار الأمراض، كالبرد والتهابات الرئة والالتهابات الجلدية، وفي ظل نقص الأدوية وانعدام الخدمات الصحية وانعدام تصريف مياه الأمطار وانعدام الكهرباء وتعطل الحياة بشكل كامل: هل فشلت المنظومة الإنسانية في أبسط اختباراتها؟ وأين النخبة العربية من الحديث عن تلك الأزمات التي يعاني منها الفلسطيني؟ أين الموقف العربي الجامع؟!
لعل هذه التساؤلات تجعل القارئ يدرك أن ما يحدث ليس خبرًا عاديًا، إنما وصمة عار على جبين الإنسان وعلى ضمير العالم، فإذا لم يكن العالم قادرًا على حماية طفل يرتجف من البرد، فما معنى الإنسانية؟ وإذا فشل في توفير خيمة تقاوم المطر؛ فبأي وجه يكرر شعارات حقوق الإنسان؟
