وإن حاولت أمريكا استغلال حالة الانهزام التي يعيشها العالم بفعل خضوعه لإرهابها من خلال توظيف الأنشطة الاقتصادية أو افتعال الأزمات أو حتى اختلاق الأكاذيب ضد الدول، فإن مساعيها المتجددة -في هذا السياق- لتأليب المجتمع الدولي ضد اليمن -بدعوى حماية الملاحة- مسألة تُعبر عما صارت عليه من انعدام الحيلة، وتُعبر -من جهة ثانية- عن إقرار بما صار يمثله اليمن من قوة وقدرات باتت تدفع واشنطن لمثل هذا الاستدعاء إلى التفاف دولي، أو إلى قرارات أُممية ضده تفتقر للشروط الموضوعية والقانونية.
التحرك الأمريكي كذلك، ومحاولة تصوير اليمن كـ”خطر على المصالح الدولية” يكشف عن مدى شعور القوى الإمبريالية الاستعمارية بأن الارتياحية التي كانت عليها في توجيه أحداث المنطقة، وحتى الأنشطة في إطار القُطر الواحد وبما يصب في حماية مصالحها، كل ذلك بات في وضع خطير، وتأثيرات ستنهي عليها حالة الاستباحة والنهب، فضلاً عن تراجع مستوى الحماية للكيان الصهيوني الذي يُعَد القاعدةَ المتقدمة لهذه القوى.
تحركات عدوان، ولا تعويلَ على المجتمع الدولي
منذ الهزيمة النكراء التي منيت بها أمريكا في عرض البحر الأحمر والحقد لا يزال ينخر في كبرياء وغطرسة قادتها، لهذا ظهر التصعيد السعودي-الأمريكي-الصهيوني ضد اليمن على هذا النحو الذي يحدث اليوم -والذي كان من أشكاله تفعيل ورقة الخلايا التجسسية- بالدفع لتمديد قرار العقوبات على اليمن في مجلس الأمن، وكذا تنفيذ مناورات عسكرية بحرية، وتركيب واختبار صفارات الإنذار في مناطق الرياض وتبوك، ونشر السعودية لمنظومات دفاع جوي على الحدود، وأخرى. كل هذا الحراك ليس إلا دليل على نوايا لجولة جديدة من العدوان على اليمن بهدف رفع الخطر اليمني عن الكيان الصهيوني في المقام الأول، والحد من قوة ردعه وتأثيره على استباحة القوى الغربية للمياه والأراضي العربية.
اليمن مستهدف، وبالتالي فإنه مَعنيٌّ بالدفاع عن نفسه بكل ما أوتيَ من إمكانات وقدرات، ولأنه لا يعوِّل على العالم أن يقف موقف حق ضد البلطجة الأمريكية و”الإسرائيلية”، فإنه -كما أعلنها سابقاً- لن يسمح بالمساس بسيادة البلد وبحياة مواطنيه. الأمر هنا أصبح -كما هو واضح- استهدافاً متعمداً للإضرار باليمن وشعبه بسبب موقفه الأخلاقي مع الشعب الفلسطيني في غزة، وهو أمر يؤكد استمرار أمريكا في محاولاتها تأمين واقع وتحركات الكيان الصهيوني، وإن جاءت على حساب مصالح شعوب المنطقة.
ثقة العالم بموقف اليمن
يؤكد الساسة والخبراء الدوليون -بما فيهم أمريكيون- أن اليمن وببساطة لن يقبل بأن تفرض القوى الاستعمارية إرادتها عليه وتوجِّه قراره بالشكل الذي ينزع منه أي موقف دفاعي أو رافض لهذه التوجهات الاستعمارية. وتأكيد الخبراء واستنتاجاتهم لا تنبني على فرضيات، وإنما على وقائع، وعلى حقائق كشف عنها عامان من الإسناد اليمني والمواجهة مع قوى دولية تتقدمهم أمريكا. وهذه الحقائق هي التي جعلت من شركات ملاحة دولية تُؤجل قرار عودتها إلى البحر الأحمر رغم انحسار عمليات القوات المسلحة اليمنية، وتُقرُّ بمخاوفها من مآلات أكيدة لأي تحركات عدائية ضد اليمن أو محاولات لاستفزازه.
كما تأتي هذه القناعة من واقع تجربة، أثبت فيها اليمن بأنه إن قال فعل، لهذا لا تزال كبرى شركات الملاحة كشركات MSC وCMA CGM وMaersk تُقاطع البحر الأحمر لإدراكها أن عدم احترام الكيان الصهيوني لاتفاق وقف إطلاق النار يعني أن الأمر لا يزال غير آمن، وباتت هذه الشركات هي من تربط أمنها الملاحي بتوقف استهداف العدو الصهيوني لقطاع غزة وسكانه.
يقول كبير المحللين في شركة “زينيتا”، “بيتر ساند” إن “عودة الشحن عبر البحر الأحمر تعتمد على استقرار الأوضاع في غزة”، ويضيف أن “الشركات المتعاملة مع الكيان الإسرائيلي ما زالت ترفض الإبحار عبر الممرات اليمنية، وتُراقب الموقف اليمني الذي لا يزال حازماً تجاه الاحتلال”.
وتؤكد شركة “هاباج لويد” الألمانية (إحدى أكبر ناقلات الحاويات في العالم) أنها تلاحظ تحسناً في الأوضاع الأمنية بمنطقة قناة السويس والبحر الأحمر عقب وقف إطلاق النار في غزة، إلا أنها “لن تستأنف رحلاتها عبر الممر الملاحي إلا بعد التأكد من أن المنطقة آمنة تماماً”.
بجاهزية مستمرة لرد المؤامرات
من هنا فإن حاجة العالم إلى السلام تفرض عليه الوقوف والامتثال لاستحقاقات هذا السلام بلا أي ازدواجية في المعايير عند تقييم الأحداث والإجراءات، وأن يُلزم الكيان بإيقاف عدوانه على الفلسطينيين وبلطجته في المنطقة. السلام أيضاً يستدعي وفاء التحالف السعودي الأمريكي باستكمال تنفيذ ما تضمنه الملف الإنساني للشعب اليمني بموجب الهدنة الممدّدة منذ عام 2022، والذي تقف واشنطن حائلاً دون حلحلته، ما يعني أن اليمن ليس بحاجة لأن تتحرك أمريكا وأدواتها كي يستعد لأي مواجهة محتملة، فهو على أُهبة الجاهزية قبل ذلك وبعده، وبصورة أكبر من أوهام أمريكا بأن اشتغالها لإشعال المنطقة وتعقيد الوضع الإقليمي يمكن أن يؤدي إلى فوضى ستمكِّنها من تحقيق أهدافها في اليمن.
كما أن أمريكا -وإن تخفّت وراء الأدوات- ستبقى مكشوفة للشعب اليمني، وستظل أمامه المحركَ لأي أعمال عدائية ضده، ما يضعها في مفترق حاد وخطير سيكبّدها الكثير من الخسائر الاستراتيجية على كافة المستويات، وسيرفع من سرعة انحدارها. لذلك فإن أي تحرك أحمق سيشير إلى تهور أكيد ورهان على سيوف من خشب.
أي مغامرة “إسرائيلية” لن تمرّ دون عقاب
وأن تقوم دول إقليمية بمحاكاة البلطجة الأمريكية في البحر الكاريبي، فتنشط جنوب البحر الأحمر، وباب المندب، وخليج عدن، والبحر العربي، وعلى امتداد السواحل والجزر اليمنية من الساحل الغربي الجنوبي وصولاً إلى البحر العربي، بحُجة “مكافحة المخدرات وتهريب السلاح” وما شابه، فإن ذلك لا يأتي فقط في سياق الاستفزاز، وإنما النوايا بالإجهاز على ما تبقى من الفلسطينيين.
إذ إن المخطط -كما يبدو- محاولةٌ لتأمين البيئة المناسبة لعودة الاحتلال إلى العدوان على غزة، مع ضمان عدم تمكين اليمن من أن يكون له أي موقف إسنادي، فضلاً عن المحاولة لفك الحصار عن ملاحة العدو، وترميم هيبة الأمريكي المسفوحة، وإعادة حضوره إلى ممر باب المندب بعد أن دفعته القوات اليمنية إلى الفرار.
ويرى مراقبون أيضاً أن ما تشير إليه هذه التحركات بما فيها الاستنفار لإنشاء قواعد عسكرية، إنما هي مساعٍ لإعادة ترتيب الوضع في المنطقة بما يعيد لأمريكا اليد الطولى في السيطرة والهيمنة على الملاحة الدولية، وبالتالي تمكين “إسرائيل” من القيام بدورها في تعزيز النفوذ الأمريكي على المنطقة والتجارة الدولية. إلا أن أُفُقَ هذه الأوهام يبدو مظلماً، وقد يتسبب ذلك في فوضى سيكتوي بها الكثير.
يحذر مركز “رين وورلد فيو” من أن أي تحرك عسكري عدواني “إسرائيلي” مرتقب ضد اليمن سيعيد إشعال صراع تتجاوز ارتداداته البحر الأحمر إلى عمق الخليج. ويؤكد المركز بأن أي مغامرة عسكرية “إسرائيلية” لن تمرّ دون تداعيات واسعة على الملاحة الدولية وعلى بنية التحالفات التي تَشكَّلَت خلال العامين الماضيين.
تحركات لاحتواء النفوذ اليمني
وتؤكد دراسة حديثة “أن التحركات الإماراتية والسعودية تتناغم تماماً مع الأهداف الإسرائيلية الهادفة إلى تحييد قدرات صنعاء وكسر معادلة الردع البحري التي فرضتها”.
الدراسة التي حملت عنوان “السيطرة على باب المندب: قراءة في دور الإمارات والسعودية في البحرين الأحمر والعربي”، وقام بإعدادها رضوان العمري، تلفت الانتباه إلى التنسيق العسكري بين “تل أبيب” وأبو ظبي في إنشاء قواعد قرب خليج عدن، بهدف “تطويق اليمن بحزام من القواعد العسكرية من الجهتين الجنوبية والغربية”.
وترى الدراسة أن هذه التحركات تهدف إلى تدويل الملف البحري اليمني، وتبرير تدخل دولي أوسع تحت ذريعة “مكافحة التهريب”، بينما الهدف الحقيقي هو التحكم في الممرات الاستراتيجية واحتواء النفوذ اليمني الذي أعاد رسم موازين القوة في البحرين الأحمر والعربي.
ـــ
موقع أنصار الله . تقرير | وديع العبسي
