في لحظةٍ تاريخية تتكشّف فيها حقيقة الصراع بين الحق والباطل، وتُستباح فيها دماء المظلومين وتُنتهك الكرامات أمام مرأى العالم، يعود الخطاب القرآني ليضع الأمة أمام مسؤوليتها الإيمانية والأخلاقية، بعيدًا عن التبرير والحياد الزائف.
فالقضية ليست مجرد أحداث عابرة، بل امتحان صادق لجوهر الإيمان، ومدى صدق الانتماء إلى دينٍ جعل نصرة الحق فريضة، والوقوف مع المظلوم واجبًا، والتضحية في سبيل الله تجارةً رابحة لا خسران فيها.
لقد خاطب الله سبحانه وتعالى المؤمنين بنداءٍ واضح لا لبس فيه، فقال جلّ وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
هذا النداء لا يقدّم خيارًا ثانويًا ولا طرحًا نظريًا، بل يحدّد معالم الطريق، ويكشف ميزان الربح والخسارة بوضوحٍ تام.
فالإيمان الذي لا يثمر موقفًا، ولا يترجم إلى تضحية، يبقى إيمانًا ناقصًا لا يرقى إلى مستوى التحديات ولا إلى متطلبات المرحلة.
إن ظاهرة التثاقل عن الجهاد والإنفاق في سبيل الله ليست وليدة الصدفة، بل نتيجة تراكمات فكرية ونفسية، في مقدّمتها ضعف اليقين، وسيطرة الخوف، والتعلّق المفرط بالدنيا.
حين تتحول المصالح الشخصية إلى معيار للمواقف، وحين تُقدَّس الراحة والسلامة الفردية على حساب الواجب العام، يصبح التخاذل سلوكًا مبررًا، ويُعاد تعريف القيم بما يخدم الانسحاب لا المواجهة، والسكوت لا الشهادة.
والجهاد في مفهومه القرآني ليس محصورًا في ساحة القتال فقط، بل هو موقف شامل يتجسّد في الثبات، والإنفاق، والكلمة الصادقة، ونصرة المستضعفين، ورفض مشاريع الظلم والاحتلال والهيمنة.
وهو التزام واعٍ يتطلب شجاعة أخلاقية قبل أن يتطلب قوة مادية، ويتطلب استعدادًا للتضحية قبل أن يتطلب حسابات الربح والخسارة الدنيوية.
ومن هنا، فإن التثاقل عن هذا الواجب لا يعبّر عن حرصٍ مشروع، بل يكشف خللًا في ترتيب الأولويات واختلالًا في بوصلة الوعي.
لقد بيّن القرآن الكريم أن التخلف عن نصرة الحق لا يمرّ دون آثار، وأن الصمت أمام الظلم ليس موقفًا محايدًا كما يُصوَّر، بل مشاركة غير مباشرة في استمراره.
فحين يتراجع أهل الحق، يتقدّم أهل الباطل، وحين تُغلق أبواب التضحية، تُفتح أبواب الاستباحة.
والتاريخ، قديمه وحديثه، شاهدٌ على أن الأمم التي قدّمت راحتها على مبادئها دفعت لاحقًا أثمانًا مضاعفة، وخسرت أمنها وكرامتها معًا.
أما الإنفاق في سبيل الله، الذي يتهرّب منه كثيرون بدعوى الخوف من الفقر أو الحرص على المستقبل، فقد قدّمه القرآن على أنه ركن أساسي من أركان هذه التجارة الإلهية.
فالمال الذي يُحبس عن نصرة الحق يتحول من نعمة إلى عبء، ومن وسيلة إلى قيد، بينما المال الذي يُنفق في سبيل الله يتحول إلى قوة تحمي الأمة، وتدعم صمودها، وتصنع توازنًا في وجه الطغيان.
ومن المفارقة المؤلمة أن يُنفق بسخاء على الترف واللهو، ويُبخل به حين يتعلّق الأمر بنصرة دين الله والمظلومين.
إن الواقع الذي تعيشه الأمة اليوم يكشف بوضوح نتائج هذا التثاقل، حيث تُترك الشعوب المظلومة تواجه مصيرها وحدها، ويُختزل التضامن في بيانات باردة ومواقف خجولة، بينما تتقدّم قوى الظلم بثقة مستفيدة من هذا الفراغ الأخلاقي.
وفي المقابل، تثبت التجارب أن القلة الصادقة، حين تمتلك الوعي والإرادة والاستعداد للتضحية، قادرة على قلب المعادلات وصناعة التحوّل، لأن النصر في منطق القرآن لا يُقاس بالكثرة، بل بالصدق والثبات.
إن دعوة القرآن إلى هذه التجارة الرابحة ليست خطابًا عاطفيًا، بل مشروعًا متكاملًا لبناء إنسان حرّ، وأمة حيّة، لا تخضع للابتزاز ولا تنكسر أمام التهديد.
وإذا أُسقط هذا الخطاب القرآني على واقع الأمة اليوم، تتضح الصورة بجلاء؛ فالأمة تعيش مرحلة غير مسبوقة من التخاذل الرسمي، حيث تُحاصر قضاياها الكبرى بالصمت، وتُترك الشعوب المظلومة، من فلسطين إلى غيرها، تواجه آلة القتل والدمار وحدها، بينما ينشغل كثيرون بحسابات السياسة الضيقة، أو بحماية العروش، أو بتبرير العجز تحت مسميات الواقعية والحكمة.
هذا الواقع لم ينشأ من فراغ، بل هو ثمرة مباشرة للتثاقل عن الجهاد بمعناه الشامل، وعن الإنفاق في سبيل الله، وعن تحمّل كلفة الموقف، حتى أصبح الباطل جريئًا، والحق وحيدًا، والمظلوم بلا سند حقيقي.
ومن يختار التثاقل اليوم، سيجد نفسه غدًا أمام نتائج خياره، وقد خسر شرف الموقف قبل أن يخسر أي شيء آخر. أما الذين استجابوا لنداء الله، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، فقد اختاروا طريق العزة، وربحوا تجارة لن تبور، في دنيا تحفظ الكرامة، وآخرة تنجي من عذاب أليم.
