المشهد اليمني الأول/

لوقُدِّرَ لك الوقوفَ على برنامجِ مجاهِدٍ لتعجَّبتَ أشد العجب من كميةِ الإصرار الممتزج بالنشاط، والذي يبدأ قبل بداية الفجر، ولا ينتهي مع ظلام الليل، يومٌ مليءٌ بالذكر والتلاوة والتسبيح والاستغفار..

ومن هذه البيئة خرج أبا فضل، فقد كانَ من السابقين السابقين، والأولياء المناضلين، وحظي بالتتلمذ على يدِ حليف القرآن، والقُربِ من القائدِ العلَمْ…

وحدَّث نفسه، وحدَّثَ أصحابه أنَّ الشهادةُ اختيار إلهي للمُخلصين، وأنه لم يحصل بعد على درجةِ الإخلاص والتوفيق، ولم يكُن يدري بأن رب العالمين، يخصص لهُ منزلةً خاصة، وحالةً استثنائية، ومكانةً عالمية..

ويجِدُ نفسهُ في أحدِ الأيامِ وبتوجيهٍ من قائد الثورة في رأس هرمِ المجلسِ السياسي لأنصار الله، وكيفَ يكونُ ذلكَ وهو الذي عشِقَ البُندقية، وعشقَ مواطنَ الجِهادْ، لكنَّه المُجاهِدُ العالم، يتلقى المسئولية بعزيمةٍ ومحبةٍ واقتدار، ويخوض المجاهد الشاب غمار السياسة؛ وكأنهُ من أربابها المُعتقين، ويمضي ثم يمضي، وفي قلبه نور الإيمان، وفي عقله موسوعة العرفان..

تطوَّرتِ الأحداث، والمجاهِدُ السياسي معها، مواكبًا ومنكبا على كل حدثٍ، دراسةً وتفسيرًا وتخطيطا، وفي كلِّ خطوة كانَ قلبه معلَّقٌ بالحياةِ الخالدة، والنعمة المتجددة..

وجاء العدوان، وبينما المُجاهِدُ يتفقَّدُ سلاحه، ويُعِدُّ عدته، يجدُ نفسه أمامَ مفاجأةٍ أخرى، ويتسلَّمُ الراية من رئيس اللجان الثورية، بصبرِ مؤمن، وبثبات مخلص، وبتنفيذ مُدرِكْ، ويصبحَ هو الرئيس، والمسئول الأول عن البلاد والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ويجدُ نفسه القريبَ البعيد من أمنيته، ويُحدِّدُ خارطة الأخلاقِ والطَّريق ويقول كلمةً لم يقلها أحدٌ قبله، حين قال:
(إذا استشهد صالح الصماد، ما معَ عياله مسكن، ما معاهم إلا أنهم آخر الشهر يرجعوا مسقط رأسهم في بني معاذ في صعدة )..
وهو في رأس السُّلطة، لم تمتد يده إلى كم مليون ويبني له بيتًا، ولم تحدثه نفسه أن يهبِطَ على بيتِ أحدِ اللصوص السابقين ويتخذه منزلاً، ولم يفكر بحيلةٍ يستحلُّ بها بيتَ أحدِ الهاربين..
لم يفعَلْ ولم يُحدِّث نفسه بفعل لأنه أبا فضل..ولأنه تلميذ المسيرة..ولأنه من رجال ابن طه.. وكل واحدة فيها من الدلالات والمعاني ما يحتاج إلى مجلَّدات..

كانَ يُردِّدُ في وداعِ كل مجاهِد قول الحقِّ سبحانه:
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا، بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين).. وفي أنفاسه شهيقٌ عميق، يتغلغل في أعماقه وهو يتذكَّر السابقين الصادقين…
ثم يتلو قول الحق سبحانه:
(ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون)..

وتعلو وجهه ابتسامة أمل، ولمحة طمأنينة، وهو يردد قول الحق سبحانه:
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)

وتتلاطمُ الأمواجُ يمنة ويسرة.. ويزدادُ العدو بدوله السبعة عشر، وجيوشه ومرتزقته؛ جنونًا وإجراما، فيقصفوا صالات العزاء والأفراح والمدارس والمستشفيات، والطرقات والمزارع، ويهمسُ الكثير في أذن الرئيس بأن يتخفى ويبتعدَ عن الظهور، لكنه يفاجئ الجميع، ويظهر في جبهاتِ ما وراء الحدود، ويخوض عباب البحر ويزور الجزر..

ويخرج يوم العيد وينطلقُ إلى إحدى الجبهات ويزورهم ويقول قولته المشهورة:
(لن نجلس في القصور لاستقبال التهاني بل جئنا لزيارتكم…) ويكادُ يُسقطُ الدَّمعَ من أعينهم وهو يقول:
(الواحد يتشرف أن يمسح الغبار عن أقدام المجاهدين هو أفضل من أي منصب دنيوي)…

ثلاثُ سنواتٍ من العدوان، والرئيسُ يحدث كلَّ من يعرف عن الشهادة، ولكنها لا تقتربُ منه، يتحركَ إلى ميادين الإعداد، وميادين تخرج الدفعات، ويخاطبهم في واحدةٍ منها:
(لقد حذروني من النزول، واخبروني أن أكلف أحدًا غيري ، لكني أبيتُ إلا أن أكون حاضرًا معكم وبينكم…
ولن تكون دماؤنا أغلى من دمائكم، ولا جوارحنا أغلى من جوارحكم…)

يقفُ كالأسدِ في ميادين الأسود؛ فخورًا بنفسه، معتزًا بمواقفه، شامخًا بتاريخه، واثقًا بمنهجه، مطمئنًا لقيادته، عارفًا بطريقه، محبًا لطريقته، شغوفًا بجائزته، متطلعًا إلى لقاء ربه..

وصرَّحَ الغزاة الجُبناء، ونعالهم الأجراء، بأنَّ الحديدة على موعدٍ من النجاسة، وبالفعلِ افتتحوا مجاريهم الوقحة؛ بعملية اغتصابٍ في الخوخة، سبقتها عملياتٌ في المخا..
وهُنا ومع كل التحذيراتِ أبى أبا الفضلِ إلا أن يكونَ هُناك، وبشجاعته المعهودة، وإصراره على اختيار طريقته في السير، بلا تخفٍ ولا تمويه، واجتمعَ بأهل الحديدة مرارًا، يذكرهم فيها بأن اليمن تهامة، وأن تهامة اليمن، وأن اليمن معهم ، وأنَّ الموعد الأربعاء؛ لنخرج بمسيرةِ البنادق، ولنري الأمريكي الذي وعدَ بأن الحديدة واقتحامها من نصيبه، وأنَّ الآخرين مجردَ دُمى أننا أهلُ حربٍ ورجولةٍ وغيرة …

وقفَ الصمادُ هُناكَ كالأسدِ الهصور، ليُخبرَ القاصي والداني بأنَّ الحديدة دونها الرجال الأبطال، من رأس السلطة إلى آخرها…

وفيما العدو يضاعفُ غاراته، ويقتل الأبرياء في كل مكان، ابتداءً بموزع، ومران، والبيضاء، وبني قيس، ولا يستثني أحدًا، فيقصفُ الراعي بين غنمه، والمزارعُ في حقله، والسائق في طريقه، والساجدة على سجادتها، والمبتهجين في عرسهم…

وكذلك كان الرئيس عائدًا من إحدى لقاءاته، وبينما كان في شارع الخمسين بالقرب من جولة الأقرعي، يأتي الطيران الصهيوأمريكي ليقصفه بثلاث غاراتٍ متتالية، وتصعدُ روحُ المُشتاقُ إلى بارئها مطمئنة راضيةً مرضية، يودعها الرئيس بابتسامةٍ حانية…

هكذا اختار الله لأبي فضل شهادةً خاصة، اجتمعت عليه مخابرات العالم، وطائرات العالم، وكل الكفرةِ الفجرة…

وصعدَ أبا فضل، ولا أقولُ له إلا : أهكذا تتركنا يا أبا فضلٍ ونحنُ على موعدِ رفعِ راية النصرْ… وكأني به يجيب ويقول: لو تأخرتُ قليلاً لفاتني حُلم حياتي، وسيحمِلُ راية النصر ابن المشَّاطْ…

ومن ابن المشَّاطِ يا ابن الصمَّاد؟!
وأقلبُ السيرة الذاتية لمهدي المشاط، فأجِدُ أسدًا هصورًا، وعملاقًا فريدًا، من خيرة الخيرة، ومن نخبةِ النخبةِ، ترتعِدُ لسبابته غرفُ الرياض، وتهتز لقبضته قصور المهفوف وأبيه، وسيكونُ شأنه شأن، يُردِّدُ عند أقدامه الغزاة ونعالهم:

ألا ليت شبلَ بني الصماد دام لنا، وياليت بأس بني المشاط لم يكنِ

رحمَكَ الله أبا فضل، وأتمنى أن أكونُ قد أخرجتُ ورقةً صغيرةً من كتابك الكبير،برغمِ الحزنِ والألم…
وهنيئًا لك رؤية وجه رسول الله ص ووصيه، وعترته، وحليف القرآن، وثلاثة نجران العظماء العزي، والملصي والقوبري.. وكل السابقين العظماء…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: مصباح الهمداني

https://youtu.be/lh4DHUJsozI

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا