المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    صفقة الـF-35 للسعودية.. هل تُسقط تفوق “إسرائيل” في سماء الشرق الأوسط؟

      البنتاغون يوافق على مرحلة متقدمة في صفقة بيع 48...

    إسرائيل وأمريكا يختلقان مؤامرة لتبرير العدوان على العراق

    الكيان الإسرائيلي المحتل، المدعوم من الولايات المتحدة، يعود مجدداً...

    من بلفور إلى ترامب.. معركة التمديد

    وعدٌ منح من لا يملك لمن لا يستحق، فكان بلفور خنجرًا مسمومًا في خاصرة التاريخ، تلاه وعد ترامب كجريمة مكتملة الأركان. ومع كل مجزرة ونكبة، ظنّوا أن الذاكرة الفلسطينية ستذوب، لكنها كانت تشتد صلابةً في قلب كل حجرٍ وزيتونةٍ وطفل. في غزة المحروقة، حيث الرماد يتكلم، ينهض شعبٌ لا يعرف الانكسار، ويخطّ دمه خريطة العودة ليقول للعالم: لن يُطفأ هذا النور، ولو اجتمع الظلام كله.

    لحظة التأسيس الاستعماري

    يشكّل وعد بلفور الصادر عام 1917م نقطة تحوّل مفصلية في مسار القضية الفلسطينية. لم يكن مجرد تعهد سياسي عابر، بل مثّل الإطار التأسيسي لانطلاق المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين، في ظل تحالفات استعمارية أبرزها اتفاقية سايكس–بيكو التي أعادت رسم خرائط النفوذ بعد انهيار الدولة العثمانية.
    تزامن صدور الوعد مع دخول القوات البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي إلى القدس، ما مهّد لمرحلة منظمة من التهويد والاقتلاع، تشبه ما تعرّض له السكان الأصليون في أمريكا الشمالية من طردٍ وإبادةٍ ممنهجة.

    وقد تجسّد الوعد في رسالة من وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد، تعهّد فيها بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، متجاهلًا الحقوق السياسية والتاريخية لأغلبية سكانها الأصليين، في انعكاسٍ للعقلية الاستعمارية التي أنكرت الوجود الوطني الفلسطيني وحصرته في طابعٍ طائفيٍ هامشي.

    بلفور الأمريكي

    بعد ثلاثة عقود، تُوّج هذا المسار بإعلان قيام دولة الاحتلال عام 1948م، على أنقاض نكبةٍ فلسطينيةٍ كبرى حملت معها التهجير واللجوء والمجازر، ورسّخت صورة الاستعمار الإحلالي كأحد أخطر تجليات القرن العشرين.
    لم يتوقف هذا المسار عند حدود الوعد البريطاني، بل أعيد إنتاجه في العصر الحديث عبر ما عُرف بـ”صفقة القرن” التي أعلنها ترامب عام 2020م، فكانت تجسيدًا أمريكيًا محدثًا لوعد بلفور: اعتراف بالقدس عاصمةً للاحتلال، شرعنة للمستوطنات، نفي لحق العودة، ورفض للدولة الفلسطينية حتى كمسمى رمزي.

    يتقاطع وعد بلفور وصفقة القرن في الجوهر الاستعماري ذاته، إذ يصدران عن قوى دولية كبرى تتصرف كمالكةٍ للأرض، وتمنحها لمن لا يملكها. غُيّب الفلسطينيون عن صناعة القرار، وحُوِّلوا إلى عوائق تفاوضية بدلًا من اعتبارهم أصحاب الأرض والحق.
    وإذا كان وعد بلفور قد شرعن الاحتلال، فإن صفقة القرن جاءت لتكريسه وتحويل النضال الفلسطيني إلى مطالب معيشية داخل بنية احتلالٍ دائم.

    المحرقة مستمرة

    في امتدادٍ عملي لوعد بلفور وصفقة القرن، تجسّدت محرقة غزة منذ أكتوبر 2023م كنموذجٍ لإبادةٍ شاملةٍ بأدوات حديثة: قصفٌ وتهجيرٌ وتجويعٌ وتدميرٌ ممنهجٌ للبنية التحتية وللنسيج المجتمعي.
    يعكس هذا العدوان استمرار العقلية الاستعمارية المدعومة أمريكيًا، التي ترى في المشروع الصهيوني أداة لإعادة تشكيل المنطقة وفق مصالحها. غير أن المقاومة الفلسطينية، وخاصة في “الطوفان” وما تلاه، كشفت تحوّلًا نوعيًا في ميزان الردع، وأسقطت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وأظهرت هشاشة المنظومة الأمنية الصهيونية التي لا تصمد إلا بتدخلٍ خارجيٍ مباشر.

    الثبات في زمن الخذلان

    رغم الانقسام الفلسطيني والتطبيع العربي الرسمي، ظلّ الشعب الفلسطيني ثابتًا في الميدان، مؤمنًا بعدالة قضيته، مستندًا إلى وعيٍ متجذّرٍ وإرادةٍ لا تلين.
    ومع استمرار الخذلان الرسمي، تبقى إرادة الشعوب الإنسانية عنصر توازنٍ أخلاقي يحافظ على مركزية القضية في وجدان الأمة، في مواجهة محاولات طمس الهوية وشرعنة الاحتلال.

    الرد الفلسطيني

    الرد الفاعل على هذا المشروع الاستعماري لا يكون بالبيانات، بل بتبنّي استراتيجية تحررٍ شاملة تبدأ بإعادة بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتفعيل المؤسسات الرسمية لتعزيز الموقف السياسي والقانوني محليًا ودوليًا.
    كما يجب الضغط على القوى الكبرى — خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي — للالتزام بالقانون الدولي وتفعيل قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، إلى جانب تعزيز المقاطعة الاقتصادية والسياسية والأكاديمية للاحتلال، وتوسيع المقاومة الشعبية والمسلحة ضمن مشروعٍ وطنيٍ جامع.

    ويُستكمل هذا المسار بدعم الإعمار والاقتصاد الفلسطيني بمشاريع تنموية مستقلة تعيد بناء الصمود.
    الشتات والإعلام والمرافعة القانونية
    لا يقلّ أهميةً تفعيل دور فلسطينيي الشتات في الدفاع عن الحقوق الوطنية في المحافل الدولية، وتسليط الضوء على قضية اللاجئين وحق العودة.
    كما يشكّل الإعلام الرقمي جبهة موازية لتوثيق الجرائم وكشف الوجه الحقيقي للاحتلال، فيما تبقى المرافعة القانونية الدولية ضرورة استراتيجية لمحاسبة “إسرائيل” على جرائم الحرب والإبادة.

    بين التاريخ والمصير

    ما يجمع بين وعد بلفور وصفقة القرن ومحرقة غزة ليس فقط الجهة المانحة أو المستفيدة، بل البنية الاستعمارية ذاتها التي تسعى لاجتثاث شعبٍ من أرضه وتحويله إلى ذكرى.
    إن الرد على هذا الامتداد التاريخي للاستعمار هو الوعي، والوحدة، والمقاومة، والعدالة — وهي الأركان الأربعة التي تحفظ لفلسطين وجودها في الوعي الإنساني والتاريخي.

    فالقضية ليست صراعًا على الأرض فقط، بل معركة على الذاكرة والمستقبل، وكل وعدٍ زائفٍ سيسقط أمام وعد الله الحق: “فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا”.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    د. محمد إبراهيم المدهون

    spot_imgspot_img