شهدت العاصمة الأمريكية واشنطن، توقيع اتفاقية دفاعية استراتيجية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وُصفت بأنها “الأكبر في تاريخ التعاون العسكري بين البلدين”، لكنها أثارت في الوقت ذاته تساؤلات حادة حول أهدافها الفعلية وتوقيتها السياسي، لا سيما في ظل تصاعد الانتقادات داخل الكونغرس الأمريكي ضد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وتحريك ملفات حساسة ضده بالتزامن مع الزيارة.
وقالت وكالة الأنباء السعودية الرسمية إن ولي العهد محمد بن سلمان وقع الاتفاقية مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مؤكدة أن الاتفاق “يهدف إلى تعزيز الشراكة الدفاعية بين البلدين ومواجهة التهديدات الإقليمية والدولية”، بما في ذلك “رفع مستوى الجاهزية وتكامل القدرات الدفاعية والتقنية بين الجانبين”.
ورغم صياغة الاتفاقية بلغة “التعاون الأمني طويل الأمد”، فإن المراقبين يرون أنها تأتي في إطار بناء محور عسكري أمريكي–خليجي جديد تحت غطاء “ردع التهديدات الإقليمية”، وهي عبارة يُقصَد بها –بحسب تحليلات سياسية– اليمن ومحور المقاومة في المنطقة، في وقتٍ لم تُصنف فيه السعودية كيان الاحتلال الإسرائيلي كخصم، بل باتت تتقاطع معه أمنياً في أكثر من ملف.
ويرى محللون أن الاتفاق يمثل تجديداً لالتزام واشنطن بحماية الرياض مقابل مكاسب مالية ضخمة، ضمن ما أعلن عنه ترامب في خطته الأمنية المسماة “المبادئ العشرة للاستراتيجية الدفاعية الأمريكية”، التي تنص على تقاسم الأعباء المالية والعسكرية مع الحلفاء. وأكد البيت الأبيض في بيانه أن الاتفاق الجديد “يسهّل عمل شركات السلاح الأمريكية داخل المملكة، ويضمن مساهمات مالية سعودية ضخمة لتمويل الأنشطة الدفاعية المشتركة”.
صفقة تسليح مثيرة للجدل: “إف–35” و300 دبابة أمريكية للسعودية
بالتوازي مع الاتفاق الدفاعي، أعلن البيت الأبيض توقيع صفقة تسليح ضخمة تتضمن تسليم طائرات “إف–35” المتقدمة و300 دبابة أمريكية للرياض في المستقبل القريب.
ورغم احتفاء الإعلام السعودي بهذه الصفقة بوصفها “قفزة نوعية في القدرات العسكرية للمملكة”، فإن الخبراء الأمريكيين شككوا في إمكانية تنفيذها قريباً، معتبرين أنها قد تواجه المصير نفسه لصفقة مماثلة مع الإمارات عام 2020، التي ألغتها واشنطن لاحقاً بسبب مخاوف من تسرب التكنولوجيا إلى الصين وقيود السيادة المفروضة على استخدام هذه الطائرات.
ويتمثل العائق الأكبر أمام الصفقة في التزام الولايات المتحدة قانونياً بالحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي النوعي (QME)، وهو مبدأ يمنع واشنطن من بيع أسلحة متقدمة لأي طرف قد يهدد التفوق الإسرائيلي في المنطقة. وعندما سُئل ترامب إن كانت الطائرات التي ستُمنح للسعودية “مطابقة” لتلك التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي، أجاب بأنها “مشابهة ولكن ليست متماثلة”، ما فُسِّر بأنه تأكيد على استمرار التمييز لصالح تل أبيب.
ويرى محللون أن الطائرات، حتى لو تم تسليمها، ستبقى مرتبطة بالشفرات الأمريكية وغير قابلة للاستخدام المستقل، وهو ما يجعل السعودية ممولاً أكثر منها مالكاً فعلياً، خصوصاً أن النظام التشغيلي للطائرة يخضع بالكامل للتحكم الإلكتروني الأمريكي.
تحريك ملف إبستين: واشنطن تضغط على بن سلمان بورقة الفضيحة الأخطر
في مشهدٍ تزامني لافت، صوّت مجلس النواب الأمريكي بأغلبية ساحقة على مشروع قانون يُلزم وزارة العدل بكشف جميع الوثائق المتعلقة بـ قضية تاجر الجنس الأمريكي الشهير جيفري إبستين، في خطوة وُصفت بأنها “تحريك للملف الأقذر في وجه محمد بن سلمان أثناء وجوده في واشنطن”.
وحصل القانون على تأييد 427 نائباً من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وسط تأكيدات بأن الملف يتضمن صوراً ووثائق حساسة قد تطال عدداً من الشخصيات العالمية، من بينهم أمراء وسياسيون بارزون.
وتشير تقارير سابقة إلى أن إبستين –الذي كان يمتلك جزيرة خاصة لاستضافة كبار الشخصيات– التُقطت له صور مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ما يثير مخاوف من استخدام الملف كورقة ضغط سياسية.
ويُنظر إلى توقيت إعادة فتح هذا الملف –بعد سنوات من طيه– كرسالة أمريكية واضحة إلى بن سلمان، مفادها أن واشنطن تحتفظ بملفات ابتزاز جاهزة لتقويض نفوذه متى شاءت. ويعتقد مراقبون أن تحريك الكونغرس للقضية تزامناً مع زيارة ولي العهد ليس صدفة، بل يهدف إلى فرض تنازلات مالية وسياسية إضافية على الرياض في مقابل تمرير الاتفاق الدفاعي.
اتفاقية دفاع على مقاس واشنطن.. وتمويل سعودي مفتوح
بحسب تصريحات ترامب عشية توقيع الاتفاق، فإن الصفقة مع السعودية “تتجاوز إطار الدفاع الثنائي إلى تكامل أمني إقليمي”، في إشارة إلى أنها تأتي ضمن مشروع “التحالف الشرق أوسطي الجديد” الذي تسعى واشنطن لتشكيله بمشاركة دول التطبيع العربي والاحتلال الإسرائيلي.
ويرى مراقبون أن هذه الاتفاقية تضع السعودية تحت المظلة الأمنية الأمريكية بشكل غير مسبوق، لكنها في الوقت نفسه تجعلها رهينة الالتزامات المالية الضخمة التي بلغت، وفق تقديرات أولية، 400 مليار دولار ضمن الاتفاق الجديد، إضافة إلى 600 مليار دولار من التزامات سابقة منذ زيارة ترامب للرياض عام 2017.
ويُجمع الخبراء على أن الاتفاق الدفاعي الأخير يعكس تحول الرياض من سياسة “التوازن” إلى التحالف الصريح مع واشنطن وتل أبيب، في مواجهة ما تسميه “التهديدات الإقليمية”، أي اليمن، إيران، وحركات المقاومة في المنطقة، وهو ما يُعيد تشكيل خريطة النفوذ العسكري والسياسي في الشرق الأوسط لصالح المحور الأمريكي–الإسرائيلي.
خلاصة المشهد: تحالفات متشابكة وابتزاز سياسي مغلف بالدفاع
توقيع الاتفاق الدفاعي بين ترامب وبن سلمان لا يمكن قراءته بمعزل عن التوازنات الجديدة في المنطقة: واشنطن تبحث عن تمويل لحروبها المقبلة وغطاء عربي لتوسيع حضورها، بينما يسعى ولي العهد السعودي إلى شرعية سياسية وحماية أمريكية تعزز موقعه في الداخل والخارج.
لكن ما بين بنود الاتفاق الدفاعي وصفقة الأسلحة وملف إبستين، تبدو الرسالة الأمريكية واضحة: “التحالف مع واشنطن له ثمن، والابتزاز السياسي هو جزء من الصفقة.”
في المحصلة، تتحرك الرياض في دائرة مغلقة من الارتهان الأمني والمالي للولايات المتحدة، في وقتٍ تتصاعد فيه التحديات الإقليمية والداخلية، ما يجعل الاتفاق الدفاعي الجديد سيفاً ذا حدين: يوفّر مظلة مؤقتة للحماية، لكنه في العمق يكرّس التبعية السياسية والاقتصادية ويمنح واشنطن اليد العليا في مستقبل القرار السعودي.
