هناك تشابه مريب، بل تطابق مذهل، بين قصة أحمد الشرع، الذي كان يُعرف سابقًا باسم “أبو محمد الجولاني”، وقصة الجاسوس الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين، لكن الفارق الجوهري أن كوهين فشل في مهمته الاستخباراتية، بينما الشرع نجح نجاحًا غير مسبوق، ليس فقط في اختراق مفاصل الدولة بل في السيطرة الفعلية على القرار السياسي والعسكري والثقافي في سورية، مستفيدًا من الانهيار الكبير الذي أعقب دخول الجماعات التكفيرية إلى البلاد في ديسمبر 2024، بدعم وتمويل مباشر من قطر وتركيا، وتسهيلات مريبة من أجهزة دولية صامتة علنًا وفاعلة سرًا.
إيلي كوهين، رغم كل ما قيل عن اختراقه العميق، لم ينجح في أكثر من مجرد حضور بعض الاجتماعات وتقديم تقارير سطحية لمخابرات العدو، قبل أن يُكتشف ويُعدم. أما أحمد الشرع، فقد تدرّج من أمير تنظيم محظور إلى “واجهة مدنية” تحمل صفة رسمية، يلتقى بها الوفود الغربية، ويستقبل الصحفيين، ويقدّم نفسه مصلحًا وطنيًا، في الوقت الذي كانت فيه طائرات الاحتلال الإسرائيلي تسرح وتمرح فوق الأراضي السورية، تقصف متى شاءت، وتغتال من تشاء، دون أي رد، ولا حتى شجب لفظي من “الحاكم الفعلي” للمنطقة الخارجة عن سيطرة الدولة، بل على العكس، كانت تغطيات إعلامه تعبّر ضمنيًا عن قبول الضربات بوصفها “رسائل” أو “إعادة ترتيب لمناطق النفوذ”.
الأخطر من هذا كله، أن الشرع لم يتوقف عند التواطؤ، بل قام بتفكيك بنية المقاومة السورية والفلسطينية على حد سواء، فبعد أن كانت إدلب وريف حلب مناطق عبور ودعم لكتائب المقاومة، تحولت في عهده إلى مناطق خالية من أي نشاط مقاوم حقيقي، بل وتم طرد عناصر المقاومة الفلسطينية من تلك المناطق، واعتقال بعضهم وتسليمهم لجهات مجهولة.
وليس غريبًا أن يُذكر اسم الشرع في تقارير استخباراتية غربية على أنه “شريك موثوق” في جهود إعادة هيكلة الإسلام السياسي بما لا يهدد المصالح الإسرائيلية، بل يحميها من التهديد الشعبي الأصيل الذي تمثله فكرة تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
أحمد الشرع، الذي رُفع إلى مراتب الزعامة بغطاء إعلامي خارجي كثيف، خاضع لغرف تحرير مرتبطة بشبكات الضغط الصهيونية في أوروبا، ظهر فجأة كرجل المرحلة، وقائد الضرورة، دون انتخابات، ودون تفويض شعبي، ودون حتى خطاب يلامس تطلعات السوريين البسطاء. ما جرى هو انقلاب ناعم، بصيغة “جهادية” هجينة، يتم من خلالها تحويل الحلم السوري في الحرية إلى كابوس تهيمن عليه أجندات مخابراتية متعددة الجنسيات، تتقاطع جميعها عند هدف واحد: إخراج سورية من معادلة الصراع مع إسرائيل، وتحويلها إلى ممر آمن للمشاريع الجديدة في المنطقة.
وإذا كان إيلي كوهين قد دخل سورية متخفياً، فإن أحمد الشرع دخلها بصفته “فاتحاً”، ثم خلع عباءة الجهاد، وارتدى ثوب السياسي الواقعي، وأعاد تأهيل نفسه برعاية مراكز دراسات أوروبية وأمريكية، وبعضها مدعوم مباشرة من منظمات لها صلات وثيقة بمؤسسات صنع القرار في تل أبيب.
لقد أصبح الشرع النموذج الجديد للجاسوس العصري، لا يحتاج إلى هوية مزورة، ولا إلى جهد لاختراق المؤسسات، بل يتم تمكينه من داخلها، ويُقدَّم على أنه صوت الاعتدال، وحلقة الوصل بين السوريين والعالم.
من يتأمل المشهد اليوم، سيرى أن الشرع لم يفعل أقل من كوهين، بل فاقه ضررًا وأذى. فبينما انتهت قصة كوهين بشنقٍ معلن أمام عدسات الكاميرات، فإن الشرع لا يزال حيًّا، يُستقبل في غرف مغلقة، ويتحكم بمصير ملايين السوريين، ويملي شروطه على المعارضة المهشّمة، ويبتز النظام المنهك، ويضبط حدود الاشتباك وفق ما تريده تل أبيب، لا ما تحتاجه دمشق أو غزة أو القدس. إنه التجسيد الكامل لمقولة: “الجاسوس الأخطر هو من يُطوّب بطلاً”.
ولأن المشهد اليوم بات واضحًا، فإن الصمت عنه لم يعد ترفًا، بل خيانة. يجب تسمية الأمور بمسمياتها. الشرع ليس مجرد سياسي مختلف، ولا قائد عسكري سابق، بل مشروع صهيوني بإخراج إقليمي وتمويل قطري، يحكم من شمال سورية، ويخدم من خارجها، ويفكك الداخل بأدوات الداخل. وإذا لم يُكسر هذا النموذج، فستتحول الخيانة إلى نمط حكم، والتطبيع إلى واقع دائم، والانتصار الصهيوني إلى نتيجة نهائية لمعارك لم تُخض أصلًا.