في واحدة من أكثر مراحل العدوان “الإسرائيلي” على غزة وحشيةً وتجردًا من كل المعايير الإنسانية، يطلّ علينا مشهد “هندسة الجوع” كواحدة من أدوات الحرب القذرة التي يمارسها الاحتلال ضدّ أبناء قطاع غزة المحاصر، خلال 20 شهرًا من العدوان الإسرائيلي المستمر، استخدم العدو الصهيوني كل أدوات القتل، من المجازر الجماعية إلى التدمير الشامل للبنية التحتية، ومع تعثر آلة الحرب في تحقيق أهدافها العسكرية أمام صمود المقاومة الفلسطينية، لجأ الاحتلال إلى استراتيجية الإبادة البطيئة عبر التجويع في إنحطاط أخلاقي، وحقد صهيوني بغيظ.
فمنذ إغلاق المعابر بالكامل لأكثر من شهرين، ومنع دخول المواد الغذائية والطبية، وصولًا إلى تدمير الأسواق وتكيّات الطعام واستهداف القائمين على مشاريع الإغاثة، في حرب أكثر فتكًا من قصف الطائرات هو تجويع الأطفال والنساء، إذ تؤكد منظمات صحية أن سوء التغذية الحاد بات يهدّد حياة آلاف الأطفال، ويهدّد أجيالًا مستقبلية بأمراض مزمنة ناتجة عن نقص الغذاء والدواء، بل وعن حرمان الحوامل من أبسط مقومات التغذية، لم يدّخر الاحتلال جهدًا في تكريس “هندسة الجوع” كتكتيك منظّم ومتعمّد.
إن العدو الصهيوني يستخدم هندسة الجوع كسلاح إبادة غير مباشر تُمارَس ضد شعب غزة تحت غطاء “المساعدات الإنسانية، هذه الجريمة مكتملة الأركان مُنظمة ومُمأسسة، بمشاركة منظمات تُقدّم نفسها كجهات “إنسانية”، فنحن لا نواجه مجرّد “خلل وفشل في التوزيع”، بل نواجه سياسة دولية تُدير الجوع كملف أمني وسياسي، تستخدمه للتطويع، للإخضاع، ولقتل روح الصمود، وكسر إرادته دون إطلاق رصاصة واحدة.
هنا، لم يعد سلاح التجويع مجرد أثر جانبي للحرب، بل أضحى ركيزة مركزية في العقيدة الصهيونية لإخضاع غزة، لم يُخفِ الاحتلال نيّته، بل تفاخر بها، من وزير “الأمن القومي” المجرم إيتمار بن غفير إلى سموتريتش ونتنياهو، كان الصوت الصهيوني واحدًا: “التجويع حتى الاستسلام”.
الهدف واضح: كسر إرادة المجتمع الفلسطيني من الداخل، ودفعه للضغط على المقاومة، أو الهروب من الجوع إلى المنافي – أي تهجير جماعي مقنّع.
وإن الأمم المتحدة التي تختبئ خلف شعاراتها البراقة، لا وجود لها أمام هذا المشهد الإنساني القاسي، حيث تتخفى واحدة من أكثر الجرائم تعقيدًا ودهاءً في سياق الإبادة المعاصرة، تتكشف جريمة ناعمة ترتكب على مرأى ومسمع العالم “هندسة الجوع” هي ليست أزمة في التمويل أو قصورًا في التوزيع كما تزعم المؤسسات الدولية، بل هي جريمة منظمة تُدار بعناية، حيث تحوّلت المساعدات إلى أداة إبادة ممنهجة، تحت غطاء الشرعية الدولية.
وعندما تصبح مؤسسات الأمم المتحدة مجرد موظف إداري في خدمة الاحتلال، فإن السؤال الأخلاقي يتحول إلى سؤال قانوني: هل الأمم المتحدة شريك في الجريمة؟ هل يمكن اعتبارها طرفًا متواطئًا في إبادة غير مباشرة؟
رغم أنّ الاحتلال يتحمّل المسؤولية الرئيسية عن هذه الجريمة الممنهجة، إلا أنّ هناك شركاء آخرين يساهمون في استمرار الحصار وتجويع غزة، وعلى رأسهم المؤسسات الدولية وبعض الأنظمة العربية.
لا يمكن الحديث عن حصار غزة دون الإشارة إلى تواطئ الأنظمة العربية، التي تُغلق المعابر، أو تُدير ظهرها لغزة تحت ذرائع سياسية، أو تعيق إدخال المساعدات، أو تُمارس التطبيع مع المحتل بينما أطفال غزة يموتون جوعًا، هذه مشاركة للعدو تجعلها في موضع الإدانة الأخلاقية، وتحمّلها جزءًا من المسؤولية عن استمرار الجريمة.
في الأخير، ما يحدث في غزة من هندسة للجوع هو خطة محكمة التصميم، ينفذها كيان الاحتلال بمخطط مكتمل الأركان، وبنية سياسية تهدف إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني، وخلق ضغط داخلي يدفعه للانفجار أو الاستسلام، هذه الهندسة الإجرامية للجوع تمثّل ذروة الانحطاط الأخلاقي، ومؤشرًا خطيرًا على استعداد الاحتلال لاستخدام أي وسيلة مهما بلغت بشاعتها لتحقيق أهدافه.
المعركة اليوم كما هي معركة سلاح، هي معركة وعي وصمود وشهادات حية على نفاق هذا العالم، والمطلوب هو تحرّك شامل، شعبي ورسمي، إعلامي وقانوني، لكشف هذه الجريمة للعالم، وملاحقة الجناة، ودعم الشعب الفلسطيني بكل السبل لكسر هذا الحصار الظالم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
عبدالحكيم عامر